في عمق وجدان شعراء العربية الفصحى القدامى, يأتي الشعر كمرآة تعكس الأحداث اليومية والحياة البشرية بكامل تعقيداتها وأزمتها الوجودية. ومن بين هؤلاء الشعراء الذين غاصوا في أعماق النفس البشريّة وقلّبوا صفحات الحياة والموت, يبرز أبو العتاهية بصوته القوي ومواقفه اللاذعة تجاه ما اعتبره سلبيات المجتمع آنذاك. وفي هذا السياق, سنتناول إحدى قصائده التي تتناول الموضوع الحميمي والمعقد للموت - وهو النهاية المشتركة لكل بني آدم حسب القرآن الكريم.
تعتبر القصيدة "موتنا مكررٌ كل يومٍ"، واحدة من أشهر أعمال أبي العتاهية والتي تستعرض بشكل قاسي الواقع المرير للحياة والموت. يقول الشاعر: "موتنا مكرّرٌ كلِّ يومٍ/ نُجريَ عليه حروفِ كتبِ". هذه الأبيات تبدأ بتأكيد متكرر لطبيعة الموت كحدث مستمر ومتجدد مثل مرور الوقت نفسه؛ فهو ليس حدثا نادرا بل جزء أساسي ومتسلسل لحركة العالم. إنها رسالة مباشرة تشير إلى أن الموت ليس نهاية مفاجئة ولكن حالة دائمة ودائمة التأثير علينا وعلى عالمنا.
الأبيات التالية تحمل طابع النقد الاجتماعي والثقافي: "نحنْ أبناءُ الأرضِ إذا ذهبت/ ذهبنا معها وهذه وصيتُنا." هنا يعبر أبو العتاهية عن نظرة ساخرة للأرض والبشر مجتمعين، مدينا ثقافة الاستهلاك الزائد والتعلق الزائد بالمادي بينما يتجاهلون الطبيعة المؤقتة لحياتهم وللأمور المادية. إنه يشير بوضوح إلى هشاشة وجود الإنسان وعدم جدوى التركيز فقط على الأشياء الدنيوية بدلاً من البحث عن المعنى الروحي والحكمة.
يمضي أبو العتاهية أكثر في تحليل العلاقات الاجتماعية والدينية قائلا: "ونعيش كما عاش من قبلنا/ ولا نحسن إلاَّ الضَّجر والعيبَا". تؤكد هذه الآيات على عدم تقدُّم الإنسانية وقصور قدرتها على التعلم من التجارب التاريخية السابقة، مشيرا بذلك لنظام اجتماعي يعتمد أساسا على الانتقاد السلبي والسخط عوضاً عن الإصلاح والنمو الشخصي. ويعود مرة أخرى للحديث عن الموت بطريقة مختلفة عندما يقول:" وإن مات واحد فكم مات؟!". تسأل هذه الجملة بإصرار وتساؤل مفتوح حول طبيعة الخسارة وكيف يمكن أن تكون خسارتنا لأحد أفراد مجتمعنا مثل فقدان شخص واحد فقط أم أنه يفوق ذلك بكثير بسبب تأثير فرد واحد على الآخرين.
ختاما، تبقى رسائل أبي العتاهية قوية ومعبرة حتى بعد قرون من كتابتها؛ فهي تنبهنا للازدواجية الإنسانية، وضرورة النظر خارج حدود الذات نحو فهم أعمق لعلاقاتنا داخل المجتمع وخارج إطار حياتنا الشخصية. إن قصائده ليست مجرد وصف لمشاهد موحية ولكن أيضا نداء للاستعداد لفهم الموت وبالتالي الحياة بمزيد من العمق والفهم المتكامل للمفارقات الإنسانية التي لا تزال قائمة حتى الآن.