1/3 من الصحوة إلى اليقظة: السعودية تعيد كتابة عقدها الاجتماعي ألا يبدو لنا المشهد السعودي اليوم أشب

1/3 من الصحوة إلى اليقظة: السعودية تعيد كتابة عقدها الاجتماعي ألا يبدو لنا المشهد السعودي اليوم أشبه بمن استفاق من غفوة طويلة، أو بالأحرى من كابوس مر

1/3

من الصحوة إلى اليقظة: السعودية تعيد كتابة عقدها الاجتماعي

ألا يبدو لنا المشهد السعودي اليوم أشبه بمن استفاق من غفوة طويلة، أو بالأحرى من كابوس مرعب؟ كيف تحولت المملكة من معقل للتشدد الديني إلى واحة للإسلام المعتدل والتحديث؟ وما هو الثمن الباهظ الذي دفعته لتحقيق هذا التحول الجذري؟

لنبدأ رحلتنا في سبر أغوار هذا التحول من نقطة البداية: تأسيس المملكة العربية السعودية. أن الحقيقة التاريخية تكشف لنا صورة مغايرة لما يُروَّج له عادة. ذاك أن الملك عبد العزيز لم يؤسس دولته على التحالف مع السلفية التقليدية، بل استند في الأساس إلى شرعية إرجاع حكم الآباء والأجداد. ألم يكن هذا جلياً حين اختار لقب "الملك" بدلاً من "الإمام"، مؤكداً بذلك على الطابع المدني لدولته الناشئة؟

صحيح أن السلفية التقليدية كانت عاملاً مساعداً ضمن عوامل كثيرة في نشأة الدولة، لكنها لم تكن العامل الحاسم كما يحلو للبعض أن يصور. بل إن الملك عبد العزيز، بحنكته السياسية، سرعان ما أعاد هذا التيار إلى حجمه الطبيعي حين حاول تجاوز حدوده. ألم تكن معركة السبلة خير دليل على ذلك؟

فالملك عبد العزيز، وهو يؤسس لدولة حديثة، أدرك مبكراً خطورة إطلاق يد التيار الديني المتشدد. لذا، نراه يقمع محاولات السلفية التقليدية للهيمنة على مفاصل الدولة، معيداً إياها إلى دورها كعامل مساند، لا كشريك في الحكم. ألم يكن هذا درساً بليغاً في فن الموازنة بين متطلبات بناء الدولة وضرورات كسب التأييد الشعبي؟

بيد أن هذا التوازن الدقيق سرعان ما تعرض لاختبار قاسٍ. ففي عام 1979، ذلك العام المشؤوم، تعرضت السعودية لزلزالين فكريين: الثورة الإيرانية واقتحام الحرم المكي. الثورة الإيرانية، بخطابها الديني الثوري، أثارت مخاوف النظام السعودي من انتشار عدوى الثورة الشيعية إلى ثورة ولاية فقيه سنية. أما حادثة الحرم، التي قادها جهيمان العتيبي وأتباعه، فقد زعزعت ثقة النظام بنفسه في ظل تلك التحديات القاسية.

في هذا السياق المضطرب، ولدت الصحوة الإسلامية السعودية. كانت في ظاهرها محاولة لإعادة إحياء القيم الإسلامية في المجتمع، لكنها في جوهرها كانت بداية لمشروع سياسي طموح يتستر خلف عباءة الدين. ألم تكن هذه الحركة أشبه بحصان طروادة فكري، يخترق المؤسسات التعليمية والدينية في المملكة؟

وهنا وقعت المملكة في فخ من صنع يديها بحسن نية تام. فبدلاً من مواجهة التطرف بالخطاب الإسلامي المعتدل والتحديث المتوازن، اختارت طريقاً أكثر وعورة: "التشدد لمواجهة التشدد". فتحت أبوابها على مصراعيها لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين الفارين من القمع في بلدانهم منذ الستينات ويتغلغلون بهدوء في مفاصل التعليم عملًا بتوجيهات التيار "البنائي" للجماعة، ظنت السعودية أنها تدخل حلفاء محسوبين عليها في معركتها ضد المد الثوري الإيراني. ألم يكن هذا أشبه بمن يستدعي الذئاب لحماية القطيع؟

من رحم هذا التزاوج المشؤوم بين السلفية التقليدية وفكر الإخوان، وُلد تيار "السرورية" الذي يجمع بين تشدد السلفية وطموح الإخوان السياسي.

الإخوان والسرورية -على عمق مابينهما من خلاف- شكلوا تيار "الصحوة". كان هذا التيار أشبه بقنبلة موقوتة،. ذاك أن هذا المزيج الخطير كان يحمل في طياته بذور مشروع "ولاية الفقيه السني"، وهو ما حذر منه المفكر السعودي غازي القصيبي حين وصف سلمان العودة، أحد أبرز رموز الصحوة، بأنه يطمح لأن يكون "خميني السنة". ألم يكن هذا نذير شؤم بما ينتظر المملكة من صراعات فكرية وسياسية؟

لنتوقف هنا لحظة ونتأمل في المسار المظلم الذي سلكته الصحوة. ألم تكن هذه الحركة، التي ادعت إحياء القيم الإسلامية، هي نفسها التي حاولت اختطاف الدولة وتقويض أسسها؟ كيف تحولت من حركة دعوية إلى طابور خامس داخل المجتمع السعودي؟

وصلت الصحوة إلى ذروة نفوذها في التسعينيات. سيطروا على المناهج التعليمية، محولين إياها إلى أداة لغسل أدمغة الأجيال الجديدة. فرضوا قيوداً صارمة على الحياة الاجتماعية، وكأنهم يريدون تحويل المملكة إلى سجن كبير باسم الدين. وفي عام 1991، في ذروة أزمة الخليج، وجه سفر الحوالي وغيره من رموز الصحوة "خطاب المناصحة" للحكومة، مطالبين بإصلاحات سياسية وإسلامية شاملة. ألم يكن هذا الخطاب أشبه بإعلان حرب داخلية على دولة تخوض حربها الخارجية المصيرية بالفعل؟ هل تذكرون ماذا فعلوا بالنساء اللائي قدن السيارات حينها وكيف كفروهن وتعدوا على عرضهن وازواجهن وأبائهن بمحاكمة تفتيش صحوية أسماها سلمان العودة "الأوراق المتداولة"؟

يتبع

2/3

لكن الأخطر من ذلك كله هو علاقة الصحوة المشبوهة بالإرهاب. فكيف لحركة تدعي الإصلاح أن تستغل الأعمال الإرهابية لمساومة الحكومة؟ لنتذكر تفجيرات الرياض عام 2003. بدلاً من الوقوف صفاً واحداً مع الدولة في وجه الإرهاب، استغل قادة الصحوة هذه المأساة لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية، هل تذكرون مبادرة سفر الحوالي؟ هل تذكرون ترويج سلمان العودة وناصر العمر لها؟. قال البعض صادقًا أنه التيار السياسي للقاعدة يستفيد من ضغوطات جهازها العسكري. أليس هذا هو قمة الانتهازية والخيانة؟

استخدم رموز الصحوة الهجمات الإرهابية كوسيلة للضغط على الحكومة وإجبارها على تقديم تنازلات. فبعد تفجيرات الرياض، كان هناك ضغط كبير من قبلهم لتحقيق تغييرات سياسية وإصلاحات. حاولوا استخدام الفوضى الناتجة عن الهجمات لإظهار الحكومة في موقف ضعيف، مما أعطاهم فرصة لمساومة الدولة للحصول على مكاسب سياسية ودينية. ألم يكن هذا إستغلالاً فجًا لجراح الوطن لتحقيق مآرب سياسية؟

ولا ننسى الصدمة الكبرى: أحداث 11 سبتمبر 2001. فجأة، وجدت السعودية نفسها متهمة بتصدير الإرهاب. كيف يمكن لبلد يعتبر نفسه حامي الحرمين الشريفين أن يكون مصدراً للإرهاب العالمي؟ هنا بدأت صحوة من نوع آخر، صحوة وطنية حقيقية تدرك خطورة الوضع وضرورة التغيير الجذري.

لكن الاختبار الحقيقي جاء مع الربيع العربي. وهنا تكمن المفارقة الكبرى في قصة سلمان العودة. فبعد خروجه من السجن في التسعينيات، أظهر العودة وجهاً جديداً، كما لو أنه قد تغير وتاب. احتوته الدولة بنية حسنة، بل وأفردت له برنامجاً في قناة MBC، منحته منبراً إعلامياً واسع الانتشار. لكن ما إن هبت رياح الربيع العربي، حتى كشر العودة عن أنيابه الحقيقية؛ كالأفعى حين تبدل جلدها. تبنى خطاب "ثورة حنين"، محاولاً إحياء حلمه القديم بأن يصبح "خميني السنة". ألم يكن هذا دليلاً قاطعاً على أن التطرف الفكري لا يمكن احتواؤه بل يجب اجتثاثه من جذوره؟

وهنا تكمن المفارقة الكبرى: في عام 2013، قامت المملكة بتجريم جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها، لكن هذا التجريم ظل حبراً على ورق. لماذا؟ بسبب نفوذ "كوهين السعودية" المستشار النافذ في وزارة الداخلية. هذا المستشار، الذي تبين لاحقاً أنه عضو في تنظيم الإخوان، كان يخطط لتحويل المملكة إلى ملكية دستورية يكون فيها الملك مجرد صورة، بينما تحكم جماعة الإخوان فعلياً. ألا يذكرنا هذا بسيناريوهات الانقلابات في دول أخرى؟ لكن المفاجأة كانت في عام 2017، عندما انكشف المخطط وهرب المستشار إلى كندا. ألم تكن هذه الحادثة بمثابة صحوة أخيرة للدولة، أدركت معها حجم الخطر الذي يتهددها من الداخل؟

وهنا نصل إلى نقطة التحول الكبرى: اعتقالات 2017. لم تكن هذه الاعتقالات مجرد إجراء أمني عادي، بل كانت بمثابة جراحة ضرورية لاستئصال الورم الخبيث الذي كان ينخر في جسد الدولة. كانت المملكة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار كدولة ريعية تقليدية، مما قد يؤدي حتماً إلى سقوطها، أو إعادة صياغة "العقد الاجتماعي" بشكل جذري.

هذه الاعتقالات مهدت الطريق لإعادة غير مكتوبة للعقد الاجتماعي السعودي، قائمة على أسس جديدة تضمن استمرارية الدولة وتقدمها. فالعقد الاجتماعي الجديد يقوم على ركائز أساسية: الإسلام المعتدل، الملكية المطلقة، حفظ مقاصد الشريعة، والإنجاز كمصدر للشرعية عبر رؤية ٢٠٣٠. ألم يكن هذا تحولاً جذرياً في مفهوم الدولة والمجتمع في المملكة؟

ومع إطلاق رؤية 2030، بدأنا نرى ثمار هذا التحول الكبير. فلنتأمل في الأرقام: قبل 2015، كانت نسبة مشاركة النساء السعوديات في سوق العمل حوالي 14%. أما اليوم، فقد قفزت هذه النسبة إلى 33.6%. هل تدركون معنى هذا الرقم؟ إنه يعني مضاعفة القوة العاملة النسائية في غضون سبع سنوات فقط!

وماذا عن التعليم؟ في 2020، بلغت نسبة التحاق النساء بالتعليم العالي 74%، متفوقة على نسبة الرجال البالغة 71%. أليست هذه ثورة تعليمية بكل المقاييس؟ بل إن التحول في المناهج التعليمية نفسها يعد ثورة بحد ذاته. فبعد عقود من التركيز على الدراسات الدينية والتلقين، نرى اليوم إدخال مواد جديدة كالتكنولوجيا والبرمجة والذكاء الاصطناعي.

أن حكمة الملك سلمان تجلت في لحظة فارقة من تاريخ المملكة. ففي وقت كانت فيه السعودية تدخل ما يمكن وصفه بالمرحلة "البريجنيفية السوفيتية" - حيث كان الحكام كلهم من كبار السن مما أدى إلى شيخوخة الدولة - جاء قرار تعيين الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد كنسمة هواء منعشة في جو خانق. ألم يكن هذا القرار بمثابة قطع الطريق على أولئك الذين كانوا يتربصون بالمملكة، منتظرين لحظة ضعفها لتنفيذ مخططاتهم؟

يتبع

3/3

لقد أحدث الأمير محمد بن سلمان، بفكره النير وشجاعته البالغة، حراكاً غير مسبوق في المجتمع السعودي. فمن قيادة المرأة للسيارة إلى فتح دور السينما، ومن تقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف إلى تشجيع الفنون والترفيه، بدا وكأن المملكة تستيقظ من سبات عميق. ذاك أن هذه التغييرات لم تكن مجرد إصلاحات سطحية، بل كانت بمثابة إعادة تعريف للعقد الاجتماعي السعودي، وتأكيد على أن الإسلام المعتدل والانفتاح على العالم ليسا متناقضين بالضرورة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للمملكة أن تمضي في هذا الطريق دون عوائق؟ وما هي التحديات التي تواجهها في رحلة التحول هذه؟

أولاً، هناك تحدي الموروث الثقافي والديني المتشدد. فالتغيير الجذري في المجتمع لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها. كيف يمكن للمملكة أن توازن بين الحفاظ على هويتها الإسلامية وبين الانفتاح على العالم الحديث؟ ألا يشبه هذا التحدي السير على حبل مشدود فوق هاوية سحيقة؟ من ناحيتي مطمئن لذلك، فكلمة الأمير محمد بن سلمان الشهيرة بأنه لن يضيع ثلاثين سنة أخرى في محاباة أحد على حساب الدولة وأنه سيدمر الفكر المتطرف تمامًا بنفسه، هذه العبارات تجعلني مسعودي أنام قرير العين لأني أعلن أنها صدرت من رجل إذا قال فعل.

ثانياً، هناك تحدي تيار "اللاكن-يون" في الداخل، هم أولئك الذين يقولون عن مبادرات الرؤية صحيح و"لكن" هؤلاء لا أوى أبلغ بوصفهم من قوله تعالى: {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون}. أما المعارضة الخارجية فلا أخشاها فهي أوهن من بيت العنكبوت. ولكن الذي يثير القلق فعلًا: أن هناك قوى إقليمية ودولية قد لا ترى في عين الرضا هذا التحول السعودي الكبير الذي يتعارض مع مصالحها، فهم يشاهدون أمام أعينهم ولادة دولة عظمى، عنقاء تنهض من الرماد بشموخ وعنفوان، كلما وضعوا عقبة أمامها دهستها كقطار يسير بسرعته القصوى على قطعة خشب مهترئة.

ثالثاً، هناك تحدي الاستدامة الاقتصادية. فرؤية 2030 تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط. لكن هل ستنجح المملكة في تحقيق هذا الهدف الطموح في ظل التحديات المتزايدة؟ وهل قامت مؤسساتنا الإعلامية ورحال فكرنا وشيوخ قبائلنا وأعيان مدننا وكل نخبتنا بتوعية الشعب بأهمية ذلك، وأنه حتم لا خيار؟

في النهاية، تبقى الكلمة الأخيرة للشعب السعودي نفسه؛ فهل سيتبنى هذا المشروع التحديثي ويدافع عنه؟ أم سيظل حنينه إلى الماضي المتخيل الذي يعاد تشكيله بخبث رغبوي طوباوي شديد وموجه لشباب لم يلحقوا كل هذه الأحداث، هل تنجح هذه الصورة الخيالية ضد تطلعاتنا الواقعية الطموحية للمستقبل؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستحدد، في نهاية المطاف، مصير هذه التجربة الطموحة وما إذا كانت ستكتب فصلاً جديداً في تاريخ المنطقة أم ستكون مجرد حلم عابر سرعان ما يتبدد مع أول نسمة ريح.

وفي خضم هذه التحولات الكبرى، يبقى السؤال الأهم: هل ستنجح السعودية في كتابة فصل جديد في تاريخها، يجمع بين الأصالة والحداثة، أم أنها ستظل بأيدينا جميعًا أسيرة الصراع بين الماضي والمستقبل؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل المملكة، بل ربما مستقبل المنطقة بأسرها، لهذا أقول أن الوطنية السعودية كأيديولوجيا شعارها السعودية أولاً والتشدد بتطبيقها هو الحل. وحتى تتيقنوا ذلك: انظروا كم يوجع أعداءنا أي طرح وطني مخلص فيصفون صاحبه بالوطنجي! وهل الوطنجية عيب؟ وهل الإساءة من الخونة تستحق النظر أصلًا إلا من ناحية كونها وسام شرف لكل من يصفه العدو بها؟ فلنقل جميعا: #نعماناوطنجي ومن لا يعجبه فليشرب من المحيط او من مياه الصرف الصحي بلندن ومونتريال وواشنطن، بعد أن يخرج من المأخور الذي قضى ليلته به ببطاقة بنك مهداة له ممن لا يجروء عن الفصح بأسمهم.


كمال الحساني

6 Blog posting

Komentar