في جوهر ديوانه، يقدم لنا الشعر العربي القديم تحفة أدبية متفردة تعكس تجارب القلوب والعقول الإنسانية عبر الزمن. تتجسد هذه التجربة بشكل بارز في أبيات "أتاني هواها قبل أن أعرف"، التي ينظمها العاشق الشهير قيس بن الملوح. ترتسم أمامنا لوحة من مشاعر الرومانسية والألم، حيث يعبر الشاعر بروح رقيقة ومفعمة بالحنين عن مدى تأثر قلبه بحب ليلى الأخيلية.
تصويرٌ بديع تستند عليه الأبيات؛ فنرى كيف يشيد الشاعر بجدارته في صد شعاع عشقٍ خانق لكنه أمضى وأعمق مما توقعه يوم سعيه لصد الإعجاب أول الأمر ("بِرَغمي أُطيلُ الصَدَّ عَنها إِذا نَأَ"). إنه تصوير حي لديناميكية النفس البشرية عندما تصطدم بالمجهول الغامض لعاطفة جديدة وحاسمة مثل الحب. ويبدو أنه حتى الرغبة في الامتناع عنها ليست كافية لإيقاف مسيرة القلب نحو الانقياد لها بدون مقاومة فاعلة.
وباستخدام صور مثالية للغاية، يرسم قيس صورة لقلب فارغ وجاهز لاستقبال تلك الحرارة المتدفقة الغريبة والتي غمرت وجوده الآن ("أَتاني هَواها قَبلَ أَن أَعرِفِ الهَوى/ فصادَفَ قَلباً خالِياً فَتَمَكَّنا"). إنها تشبيه عميق بالأحداث اليومية، فالقدر هنا أكثر واقعية لأن اللقاء غير مخطط له مسبقا ولكنه القدر نفسه، وهو قوة خارجة عن سيطرة الإنسان تمامًا وكأنما يخضع للإرادة الإلهية. يقود ذلك إلى الاحساس بأن كل شيء يحدث وفق خطة ربانية، وليس هناك مجال للمقاومة الفعلية لهذه المشاعر الطاغية.
ومن خلال استخدام المصطلحات الدالة مثل "صادف" و"تمكن"، يوحي بناؤه اللفظي بطابع حتمي شديد لقبوله للحالة الجديدة التي فرضتها حياة جديد تمر بكامل تفاصيل حياته حاليًا بعد انطلاق شرارة هذه العلاقة الحميمية داخله. وهكذا فإن اختيار اللغة والتلاعب بها يخلق طبقات من المعنى تسمح بتفسير مختلف للعاطفة الجامحة داخل نفس عاشق راغب بكل ارادته في التحكم بمجرياتها الا أن دوره لم يعد سوى مجرد مراقب سلبي لشكل انسلاخ روحه واستبداله بشخص آخر هو الشخص المرغوب والذي أصبح جزء كبير جدا من كيانه الخاص منذ اللحظة الأولى للتواصل معه بصورة مباشرة وغير مباشرة أيضا عبر حسابه الداخلي المستشعر لكل حركة وحضور وانتماء وانقطاع ايضا لمن احبت جمعا بينهما.