في العصر العباسي الثاني، شهدت الخطابة تطوراً ملحوظاً انعكس بشكل كبير على مستوى الأداء اللفظي والثقافة العامة للمجتمع. هذا التطور لم يكن مجرد تعبير عن الحاجة السياسية والتواصل الاجتماعي فحسب، بل كان أيضاً نتاجاً للنهضة الثقافية التي شهدتها الدولة آنذاك. يتميز فن الخطابة خلال هذه الفترة بسلسلة من السمات الفريدة التي تميزها عن غيرها من الفترات الزمنية الأخرى.
أولى تلك السمات هي الدقة والبراعة اللغوية. كانت الخطابات تقدم بمفردات غنية ومعقدة، مما يعكس مدى تقدم اللغة العربية وتنوعها. بالإضافة إلى ذلك، كان الشعراء والمحدثون يستخدمون الاستعارات والأمثلة البيانية بصورة متكررة لإضافة العمق والمعنى إلى خطاباتهم. يمكن رؤية هذا النوع من البراعة الشعرية واضحة في أعمال شعراء مثل أبو نواس وأبو الطيب المتنبي.
ثانياً، اتسمت الخطابة بالتركيز على الموضوعات الأخلاقية والفلسفية. بدلاً من التركيز فقط على القضايا اليومية، شجع الخطباء الناس على التفكير والنظر في قيم الحياة ومكانتها في العالم. أدى هذا إلى زيادة الاحترام للأدباء والشعراء الذين كانوا يُنظر إليهم كصناع للعقل أكثر منهم مجرد مقدمين للمعلومات.
ثالثاً، برز دور المرأة في المشهد الثقافي خلال هذا الوقت. رغم أنها لم تكن قادرة على خوض المنافسات الرسمية، إلا أنها كانت تلعب دوراً هاماً كمستمعة وحاكمة. العديد من النساء الفرسان والمستنيرين شاركن بنشاط في النقاشات حول الفن والأدب، مما زاد من تنوع وجهات النظر داخل المجتمع.
بشكل عام، يعتبر العصر العباسي الثاني مرحلة مهمة في تاريخ الخطابة العربية بسبب تركيزه على الجماليات اللغوية، الأفكار العميقة، وتمثيل المرأة في مجال الأدب والفكر. إن فهم سماته الفريدة يساعدنا على تقدير عمق تراثنا الثقافي الغني والاستمرارية التاريخية لأسلوب التواصل العربي القديم.