في غياهب الأدب العربي، يبرز اسم الشاعر المصري الكبير الشّريف أحمد شوقي كواحدٍ ممن ترجموا حُبِّ الوالدَين لساحل بلدهم بشكل جميل وغني بالمعاني. لم يكن ذلك فقط عبر شعره الخاص، ولكنه امتد أيضًا لتقديره وتشجيعه للأجيال السابقة التي كتبت الشعر الوطني قبل عصره، ومن بين هؤلاء كان خليل اليازجي والبارودي. يُعرف الأخير بأنه "أمير الشعراء"، فقد ترك بصمة بارزة وأعماله الدائمة في مجال المدح والشعر السياسي والأخلاقي، لكن أعماله الوطنية تحديدًا تحتفل بتراث مصر العريق وتعكس مشاعره تجاه أرض الآباء.
تنقسم قصائد البارودي إلى عدة فصول تتناول مواضيع مختلفة حول حب الوطن والتاريخ والتقاليد المصرية القديمة. إحدى أشهر هذه القصائد هي "الشكوى"، والتي تصور فيها معاناة الشعب المصري تحت حكم الاستعمار البريطاني بطريقة مؤثرة وحماسية. يقول أحد مقاطعها: "أيا بحر يا بحر يا موج مد وجزر / هل تسمع شكاية وجع قلبي؟". وفي قصيدة أخرى بعنوان "الأندلس"، يدعو البارودي إلى استرجاع مجد الأندلس الإسلامية ويذكر تاريخ المسلمين المجيد هناك، مما يعكس مدى تأثير الثقافة والتراث المشترك لهؤلاء العرب.
ومن الجدير بالملاحظة كيف يستخدم البارودي اللغة العربية الفصحى بمفرداتها الجميلة والقوية لنقل عاطفته تجاه وطنه ومآسي سكانه. كما يحتوي شعره على عناصر شعرية مثل التشبيه والاستعارات والكنايات لإضافة عمق ومعنى أكثر لأشعاره. بالإضافة لذلك، فإن اختيار الزمن الماضي في كثير منه يرجع ربما لحنينه إلى زمن مضى كانت فيه الأمجاد قائمة وكانت البلاد مستقلة ذات سيادة كاملة. وهذا جعل لقصائده وقعاً خاصاً لدى القراء الذين يشاطرونه نفس الأحاسيس والمواقف السياسية.
لقد كرم الشاعر الشريف أحمد شوقي ذكرى البارودي ضمن موسوعته الشهيرة "ديوان العرب"، وهو دليل قاطع على مكانته الأدبية الهائلة واستمرارية تأثيرات شعره حتى بعد قرون من وفاته. إن إنتاجاته تعبر اليوم كجزء حيوي من تراثنا الثقافي والفكري، وتظل مصدر إلهام للمبدعين الجدد للحفاظ على روح الحس الوطني والإنساني في كل عمل أدبي جديد يتم ابتكاره. إنها قصة جميلة وشعر خالد يحكي لنا دوماً بأن الحب الحقيقي لوطن الإنسان ليس مجرد شعار فارغ، وإنما هو رباط مقدس محفور داخل نفوس أهل الأرض بكل تنوعها ولغاتها المتنوعة ولكن بوحدة واحدة هدفها الحرية والعزّة لكل البشر جميعا بلا استثناء!