كان للشعر العربي في فترة الجاهلية مكانة مرموقة بين شعوب الجزيرة العربية، وكانت قيم الفروسية والشهامة والكرم أساساً لتكوين قصائدهم التي تعكس حياتهم اليومية وأحداث زمانهم. ومن أهم الموضوعات التي تناولتها هذه القصائد هي رثاء الأب، والذي يعد مرآة صادقة لتمسك المجتمع البدوي بتقاليد القرابة والعائلية.
في العصر الجاهلي، كان للأب دور بارز ومحوري داخل البنية الاجتماعية والطبقية للمجتمع العربي آنذاك. فالأب ليس مجرد رب أسرة ولكنه الحامي والقائد والموجه لأولاده، وهو الشخص المسؤول عن تأمين الاحتياجات المعيشية والنقل الاجتماعي لعائلته. ولذلك، فإن خسارة هذا الدعم الكبير يمكن أن تكون كارثة اجتماعية تتطلب الشرح والتعبير عنها عبر أشكال أدبية راقية مثل الشعر.
نلاحظ ذلك واضحا في قصيدة "العجاج بن ثقيف" الشهيرة لرثائه أبيه حيث يقول:
"إذا المنيّة حازت عبدها/ فقد خاب الرفيق وذو المحلّ/ وقد كنتُ أحسبُ نفسي مُعَلَّلا .../ إذ لم يكن لي سواك ملاذ."
هذه القصيدة وغيرها الكثير توضح مدى تأثير وفاة الآباء على نفسيات أبنائهم وما يترتب عليها من آثار عميقة تمتد إلى مختلف جوانب الحياة الشخصية والاجتماعية لهم. كما أنها تشير أيضاً إلى فضيلة البر بالأهل وكرامتهم حتى بعد رحيلهم.
ومن خلال دراسة هذه الأعمال الأدبية القديمة نستطيع فهم طبيعة العلاقات العائلية في ذلك الزمن وظروف حياة الشعراء الذين كتبوها والتي كانت مليئة بالتحديات والصراعات ولكن وفي الوقت نفسه غنية بالقيم الإنسانية النبيلة والحفاظ على الروابط الأسريّة الوثيقة التي تحولت إلى تراث ثقافي خالد يستحق الدراسة والإعجاب حتى يومنا الحالي.