يتميّز ديوان الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب بإستخدامه المكثَّف للأدوات البلاغية، خاصة الرمزية، لتحقيق هدف أساسي يتمثل بتقديم رؤية شعرية عميقة ومعمقّة حول الواقع المعاش. وفي قصيدة "سربروس في بابل"، نرى كيف يستغل السياب قوة اللغة لنقل رسالة سياسية واجتماعية عبر شبكة متداخلة من الرموز المستوحاة من التاريخ والفولكلور.
تنقسم دلالات الرمز الشعري في هذه القصيدة غالبًا إلى ثلاث فئات رئيسية؛ رموز أسطورية، وطبيعية، وأخرى مكانية. تبدأ رحلتنا داخل عالم السياب برمز العنوان نفسه؛ "سربروس". وفق الأساطير اليونانية القديمة، سربروس هو كلب ذو ثلاثة رؤوس يحرس أبواب عالم الموتى. لكنَّ السياب هنا يخطف هذا الوصف ليجعله تجسيدا محتملاً لأفعال القوى الاستعمارية الغربية المدمرة للعراق خلال فترة الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. يقول الشاعر: "ليعو سربروس في الدروب/ في بابل الحزينة المهدمة/ ويملأ الفضاء زمزمة"/ "يمزق الصغار بالنوابض/ يقضم العظام". تزداد تعبيرات الشر والخراب حدة بينما تصبح صورته أكثر تطرفاً وتحقيقا لدوره المرعب كمؤذن للنهاية المقيمة لبغداد.
ومن ثم، تستمر الدراسات المتعمقة لتصورات السياب لتظهر تناوله لاستعارات مرتبطة بالأرض والعناصر الطبيعية كجزء حيوي آخر من نظامه الجمالي. فالماء مثلاً، والذي كان جزءا أساسياً من أعمال جميع الأدباء العرب تقليديا، يأخذ هنا طابع الانتقام والتجديد والتطهير. فهو ليس فقط مصدرا للحياة وإنما أيضا رمز للإصلاح الاجتماعي والديني; "لو ينتدي الحسام/ لفجر الرعود والبريق والأمطال// وليفرج السهل من يديه اه! لو يؤوب!" وهذه الصورة المائية تتميز بانفعالات قوية ومتناقضة تخلق عمق شعوري ضمن سياقات تاريخية واقعية.
وأخيراً وليس آخيراً، فإن استخدام الموقع الجغرافي الخاص ببابل يشكل العنصر الثالث الأساسي لهذه المنظومة الزاخرة بالإشارات المترابطة. حيث يبدو اختيار موقع القصيدة ذو دلالة عميقة لما له من ارتباط وثيق بالتراث الثقافي العريق للشعب العراقي منذ القدم. واستخدام اسم المدينة نفسها يعني التأكيد اللافت لتاريخ وحاضر مكان تعتبره الرواية الرسمية نقطة انطلاق لكل حضارة الإنسانية المبكرة والثاقبة التفكير. لذلك عندما وصف الشاعر حالة مدينة موجودة تحت رحمة شرور مخيفة كهذه، فإن ذلك يمكن اعتباره اعترافاً واضحاً بمصير محزن ولكن محتوم اتجه نحوه بلد ذات يوم كان مركز العالم وفخره.
وفي النهاية، يبقى عمل بدر شاكر السياب باستخدام نظام التعبيرات المشفرة أمرا بارزا لشاعره أثناء انتقاله وسط حقائق عصره المؤلمة والتي لم تكن أقل شأنا بالملموس عنها بالقوة الانفعالية.