الدقة والاستيعاب في استخدام الاستفهام لدى المتنبي: دراسة نقدية

يمثل المتنبي إحدى العلامات البارزة في الشعر العربي، ويتميز شعره بتنوع أساليبه واستخدامه الفريد للأدوات النحوية والبلاغية. ومن بين هذه الأجهزة التي است

يمثل المتنبي إحدى العلامات البارزة في الشعر العربي، ويتميز شعره بتنوع أساليبه واستخدامه الفريد للأدوات النحوية والبلاغية. ومن بين هذه الأجهزة التي استخدمها ببراعة، نجد "الاستفهام". في هذا السياق، يبرز دور الاستفهام كآلية فعالة لتوضيح الأفكار وتعميق المعاني وتعزيز التأثير الشعري.

يعدّ الاستفهام أحد أهم أدوات بلاغة العرب وأكثرها إستخداماً في الشعر الجاهلي والعروضي. وهو يستعمل لأسباب متعددة؛ منها التأكيد والتمني والتقرير والاستخبار وغير ذلك. وفي شعر أبي الطيب المتنبي، يأخذ الاستفهام بعداً خاصاً يعكس عمق رؤيته وفلسفته للحياة والموت والنفس البشرية.

يمكن تقسيم أنواع الاستفهام إلى قسمين رئيسيين حسب الغرض منهما: الإيجابي والسالب. ففي النوع الإيجابي، يقصد الشاعر تأكيد حقيقة ما أو بيان أمر معلوم بالفعل مثل قوله: "ألم ترَ كيف يسعى لهُ مَنْ سَعَى؟"، بينما تستخدم الصياغة السلبية للتعبير عن حالة عدم اليقين أو التساؤل حول موقف غير واضح كما فعل حين قال:" ألم يك أشقىً من كان المال عنده ولم يُغنِ عنه شيئاً إذا اشتكى!".

كما اتسمت استعاراته بالاستفهام اللفظي، حيث يقوم بتغيير شكل جملة للاستعلام ويتحول إلى عبارة مؤكدة لقوة الصور المشهدية المحسوسة لديه. مثال على ذلك قولته الشهيرة: "ألم يكن ضعيف الحبل ضعيف القوي!" والتي تعبر بشكل حي عن هشاشة الشخص الخانع أمام الأقوياء الذين يمكنهم شد جذوره ونزع قواه بسرعة كالخلوق الضائع بحباله الرخوة!

بالإضافة لذلك، يوظف المتنبي أيضًا قدرته الأدبية الرائعة لاستعمال الاستفهام بطرق مختلفة تخفى وراء بنيات لغوية مفاجئة ومدهشة مما يدفع المستمع لمتابعة مقطع القصيدة باهتمام وشغف نحو معرفة نهاية الربط المعنى الدقيق للنصوص. وهذا ينطبق خصوصا عندما يهز رأسه باسترجاع الماضي ويقول مخاطباً نفسه بصورة خفية عبر آفاق التاريخ القديم: "...إن لم تكن لنا ذمةٍ فلا خير فيما مضى ولا فيما هو آتي...". هنا يحول الاستفهام إلى وسيلة للتفكير الذاتى والشكوك الداخلية بدلاً من مجرد تسجيل حقائق خارجية معروفة للمتلقي.

وفي مجال آخر تماماً ولكنه ليس أقل تأثيرًا رسائله الاجتماعية والفلسفية، فهو أيضا يجسد مشاعر المجتمع العربي آنذاك باستخدام نفس الآلية الواضحة لكن بمحتويات أكثر العمقا وغزارتها في فهم الحياة اليومية العامة وحكماتها الخاصة بالحاضر والمستقبل وذلك بإطلاق الاسئلة المفتوحة التالية : "أو لم ير الناس شرف النفس بالعز ...أن الكريم يعرف ويجهل الهالك... ".

وبالتالي فإن فنون أبوالطيب الأدبية -التي تعتمد وبشكل ملفت للإنتباه علی مفتاح الاستفهام- قد فتحت أبوابه واسعة للأجيال اللاحقه مستمرة بذلك روح النهضة العربية منذ القدم حتى يومنا الحالي . إنه يشجع دائماً مجالات جديدة للتحليل والإبداع لكل من عاشر وعايش عبقرية هذا العالم الفذ المُلهم والمعبرة دائمًا عن ثقافتنا العريقة وما تحمل صفحات تاريخنا العزيز العريق !

التعليقات