في ثنايا الأدب العربي الزاخر، تتألق قصائد الحكمة كنجوم في سماء الشعر الجاري. يمتد التاريخ العريق للأدب العربي بتراث غني بالشعر والحكمة، ممثلاً لكبار شعرائه الذين تركوا بصمات خالدة عبر العصور. هذه القصائد ليست مجرد كلمات وطبول موسيقية، بل هي تعبيرات عميقة تضيء طريق الفكر الإنساني وترشده إلى مسالك الحقيقة والمعرفة. سنتناول هنا بعضاً من أجمل ما قالته أقلام الشعراء العرب حول الحكمة والفلسفة والقيم الإنسانية النبيلة.
تعتبر قصيدة "الأَلْفَيَّةُ لِلصِّغَانِيّ" أحد أهم الأعمال التي تركها الشاعر أبو الفضل محمد بن علي بن أحمد الصاغاني. وهي عبارة عن مصنف في علم اللغة والشعر يحتوي على ألف بيت شعر تُختار كل منها لأسباب لغوية معينة. ومن ضمن تلك الأشعار نجد حكمة رائعة تقول: "إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا كَانَ مُعْرِفاً * بِما هُوَ فِيهِ فَهُوَ الرَّاشِدٌ". يشير هذا البيت إلى أن الشخص عندما يعرف نفسه ويستوعب مواطن القوة والضعف لديه فهو شخص رشيد وحكيم.
وفي نفس السياق، ينثر أمير الشعراء أحمد شوقي في مديح الخمر حكمته الخاصة قائلاً: "خمر يا عاذلي ليس تسري بها الدماء ولكنها روح الحياة"، مما يوحي بأن السعادة الحقيقية تأتي فقط من الروح وليس من المواد المادية. كما يستعرض ابن زيدون مشاعره المتداخلة بين الحب والكراهية مستشهداً بحكمة عمرها قرون حين يقول: "إن كنت أخاف الناس فأنت ترى/ أنّ الدهر قد وهى أمرعه!". يعبر هذا المثل عن مدى ارتباط الإنسان بخوفه المستدام تجاه الآخرين رغم مرور الزمن والتغييرات المجتمعية.
ومن أشهر أبيات الحكم العربية أيضاً تلك التي كتبها حسان بن ثابت رضي الله عنه وهو يفصح عن طبيعة الحياة البسيطة: "لا خير فيما لا يبقى ولا شر فيما يفنى". تؤكد هذه الآية على ضرورة عدم الاعتماد بشكل كبير على الأمور الوقتية وعدم التركيز عليها لأن كل شيء مؤقت وكل ما هو باقي سوف يدوم ويتجلّى جمال وجوده أمام مرآة الزمان والمكان.
تشكل مثلث العلاقات الثلاث (الحاكم - المحكوم - السياسي) محورا رئيسياً لحكمة أخرى شهيرة نقلتها لنا تراثيات الأدب العربي القديم؛ إذ يؤكد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على دور السياسة والإدارة الجيدة عند قوله: "العاقل يُجير نفسه قبل عرض الأمر عليه." وفي ذلك تشبيه للحاكم بأنه مسئول عن تصرفاته وسلوكاته بناءً على قراراته السياسية اليومية والتي تنعكس بدوره آثارها الإيجابية والسلبية لدى الشعب المحكوم تحت منظومة قوانينه التشريعية والنظام العام للدولة. وبالتالي فإن القرارات المصيرية تعتمد أساساً على قدرة وجرأة المسؤول عن اتخاذ القرار المناسب بدون تدخل خارجي أو ضغط داخلي لتحقيق مصلحة الوطن وشعبها الأعظم..
تعكس قصائد الحكمة العربية قيمة أساسية واحدة وهي الاعتزاز بالعقل والاستنارة بفطرة النفس البشرية وما تحتوي منه من قوة للإبداع والإنتاج المؤسس للعلم والمعارف المختلفة المرتبطة بكافة جوانب نشاط وعطاء الأفراد بمختلف طبقاتهم الاجتماعية وفئاتهم العمريه. إن فهم واستيعاب دلالات ومرامي كلمات هؤلاء الرجال الثاقبة سيضيف بلا شك مستوى جديد من التفكير العميق لكل قارئ ذكي يسعى للارتقاء بمعرفته العامة نحو آفاق راقية ترتاح لها نفوس المتمسكين بالأصول والقواعد العلمية الراسخة كمصدر مفيد لفهم الذات ومعرفة العالم المحيط بنا منذ القدم حتى يومنا الحالي وكذا الغد بإذن الله سبحانه وتعالى.
