يعد أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي المعروف باسم "البحتري"، أحد أشهر شعراء العصر العباسي وأبرزهم الذين تناولوا فن الوصف بدقة وجمالية عالية. يتميز شعر البحتري بمزيجه الفريد بين الرقي الأدبي والقوة البلاغية التي تعكس جماليات العالم الطبيعي بطريقة فنية ساحرة. سأتناول هنا بعض أجمل ما كتب هذا الشاعر الكبير حول الوصف البيئي.
في قصيدة "الصبح"، يرسم لنا البحتري لوحة شمسية معبرة باستخدام صور حية لوصف طلوع الشمس:
"إذا طلع الصباحُ بتاجِ نورٍ فللوجه منه قطعةٌ وحده
وخلفَ ظهره ديباجٌ يلمعُ وكأنما الشمس فوق مركبه."
بهذه الأبيات يستحضر البحتري مشهداً جميلاً لشروق الشمس كولاة تاج ذهبية تتألق بتوهجها الدافئ خلف ظهور القمم الجبلية. يعبر استخدام التشبيه والتورية ("قطعة وجه") عن مدى تأثير الضوء المشع للشمس بشكل مؤثر ومباشر على المشاهد.
وفي القصيدة نفسها، ولكن هذه المرة عند الغروب، نجد تصويراً آخر للطبيعة عبر أبياته التالية:
"والغرب يبسط يديه عاطشًا على الندى فأعطاه رداءً أحمر".
يستخدم صورة غير تقليدية للغروب - اليدان المتمددتان لاستقبال ندى الليل - لتوضيح كيف تغرب الشمس تاركة خلفها ضبابا وردياً رقيقاً. إن الجمع بين عناصر الطبيعة المختلفة (الأفق، النور، اللون) يخلق عمقاً بصرياً مذهلاً يجسد روعة اللحظة الأخيرة قبل بداية اليوم الجديد.
كما يشتهر أيضًا بشعر الوصف الحيواني الرائع كما هو الحال في مقطوعة بعنوان "الصقر":
"صقرٌ قوقلانيّ قد ترك الخطَّ كمثلي يحسب الناس فيه مثله"
هذه المقاطع تشير إلى صقر مهيب وخرافي بقوتة وشدة حذقه مما يوحي بأنه متفرد تمامًا ولا يمكن لأي مخلوق آخر منافسته في ملكاته وهيبته. إنها الانطباع الذي يسعى إليه كل كاتب وصاحب أسلوب مميز حين يعطي انطباعًا عن شخصية فريدة ومعقدة ومتفردة مثل طبيعة خلق الله الخفية.
إن قدرة البحرتري الاستثنائية في نقل تجليات الحياة البرية والحالة الإنسانية كانت نتيجة لدعم اجتماعه بالحياة الريفية وتجاربه الشخصية المبكرة خلال طفولته وهي الفترة التي اختلط فيها بالعالم الطبيعي وكانت مصدر إلهام له فيما بعد أثناء ابداعه الشعري . وبالتالي فإن أغلب أعماله تعتمد أساسا على مراقبة الظواهر الجمالية للأرض وما تحتويه من خيرات ونواميس تدفع الإنسان للتأمل والإعجاب بخالق هذه الكائنات بكل تفرداتها وعجائب صنعته سبحانه وتعالى.