يُعتبر الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن سعيد الأنصاري الأندلسي، والمعروف بابن رشيق القيرواني (990 - 1055 ميلادي)، أحد أبرز الشخصيات العلمية والأدبية التي برزت خلال العصر العباسي. ولد في مدينة قيروان بتونس وتلقى تعليمه فيها وبالقيروان نفسها قبل انتقاله إلى مصر وعاش بها حتى وفاته. عرف عنه دهائه وحنكته الفذة في مختلف المجالات المعرفية، خاصةً فيما يتعلق بالأدب العربي ومبادئ اللغة العربية.
ترك لنا ابن رشيق إرثًا أدبيًّا غنيًّا يعكس براعته ودقته كمؤلف وباحث متمرس. يعد كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه"، والذي ألفه سنة 426 هـ/1035 م، مرجعًا أساسيًا لدراسة علم البديع وأساليب التعبير الشعري لدى العرب القدماء. كما ألف أيضًا عدة كتب أخرى مثل "الاعتبار في نقد الشعر" و"التذكرة في محاسن الأشعار". هذه المؤلفات تُظهر تفوقه وتميزه في مجال النقد الأدبي وتحليل النصوص الشعرية بشكل عميق ومنهجي.
بالإضافة إلى إسهاماته الأدبية، كان لابن رشيق دور بارز في دراسة علوم اللغة والبلاغة والنحو والصرف. فقد ألّف كتاب "الكفاية في النحو" وهو دليل شامل لهذه العلوم يُعتمد عليه حتى اليوم لتدريس أساسيات اللغة العربية ونظامها الاشتقاقي. ويعد هذا الكتاب نموذجاً فريداً لمدرسة الدراسات اللغوية التي سادت آنذاك والتي تميزت بالدقة والشمول والمنهجية الواضحة.
بشكل عام، يمثل حياة وأعمال ابن رشيق القيرواني مثالًا مشرقًا لأحد أعلام الثقافة الإسلامية الذين جمعوا بين معرفة واسعة بمختلف جوانب المعرفة الإنسانية والإبداع الخلاق في مجالات تخصصهم. وقد ترك بصمة واضحة تؤكد مكانته كأحد رواد النهضة الفكرية والثقافية في تاريخ العالم الإسلامي.