تتجاوز الأبعاد الزمنية وتُحلق بين المطولات، قصة الغريب في أرضٍ ليست أرضَه؛ لحنٌ مؤرق يداوي النفس ويؤلمها في آن واحد. إنها حالة الانزواء العاطفية التي يجسدها الشاعر العربي بكلمات قاسية وناعمة في الوقت نفسه، كأنه يرسم لوحة متناقضة للروح المنكوبة تحت سماء غريبة.
يتحدث الشعراء العرب القدامى والحديثون عمّن يعيشون غربتهم الفكرية والعاطفية خارج نطاق الوطن الأم، تلك الأرض التي تشكل جزءاً أساسياً منهويتنا الإنسانية والجماعية. إن القضية أبعد بكثير مما يبدو عليه الأمر أمام العين المجردة؛ فهي رحلة روحية بحثاً عن الذات وسط بحر شامل من الجهل والإهمال الثقافي والفكري.
وكأني بالأديب "ابن الرومي" وهو يصف أحاسيس المغتربين حين يقول: "وَإِنّي لَمَنْ يُقَلِّبُ الدَّهْرَ مُعَرِّفَا/ وَيَعْمَلُ عِيَّادَةَ حِينَ لا يَدْرِي". هنا تصور مفعم بالمشاعر المعقدة للمهاجر الذي يغمر قلبه الحنين إلى وطنه بينما يسعى لتكوين هويته المستقبلية الجديدة بالخارج.
وفي عصر النهضة العربية الحديثة، امتدت أصوات شعرائنا للتعبير أكثر شمولية حول هذا الموضوع اللافت. فالشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان تنثر ندوب قلبها المحطم بدمعات الشعر بندوب طويلة المدى قائلةً: "غريب أنا.. وإن كنتُ في مهدي,/ بلداً غريباً هو وطنُ آخر." وهي صورة واقعية تعكس مرارة حياة المبعد بالقوة عن مدينته الأصلية ومشقة التأقلم مع بيئة جديدة تمام الاختلاف عنها.
إن هذه الرواية المتنوعة للقصة تغوص بنا نحو الأعماق الداخلية للإنسان، تسبر أغوار مشاعر الوحدة والشوق والحنين لدى الإنسان المسافر عبر حدود غير مرئية تحيط روحيه بكل اتجاه. لذا فإن دراسة التجربة الأدبية للغرباء تقدم لنا منظور عميق لفهم الاقتصاد الاجتماعي للعقل البشري أثناء فترات التحول والتغيير الكبيرتين. ومع ذلك، يبقى صوت الشعر دائمًا أقرب ما يمكن للتواصل مع الفروقات النفسية والمعنوية للحالة البشرية العامّة بغض النظر عن مكان وجود الشخص.