في عمق التاريخ العربي، شهد الأدب أمثلة عديدة حول ازدراء الناس للشكل الخارجي بدلاً من التركيز على الشخصية الداخلية والقيم الإنسانية. إحدى القصائد البديعة التي تجسد هذا الموضوع هي "ترى الرجل النحيف فتزدريه" والتي كتبها الشاعر كثيّر عزّة خلال فترة الدولة الأموية.
تصدى الشاعر لكثيّر عزّة لموقف تعرض له عندما قابل الخليفة عبد الملك بن مروان لأول مرة. إذ كان الخليفة متوقعاً لشعر كثيّر قبيل لقائه الشخصي معه، وبالتالي دهشه شكل الثقل حامل الشعراء بعد رؤيته العمياء. رد الفعل الأولي للخليفة كان عدم رضاه عن صورة المثقف الناحية الفيزيائية، مما جعل كثيّر يستغل الفرصة ليقدم بياناً أدبياً ضمن هذه الأبيات العشرة الشهيرة.
تشير القصيدة بشكل واضح إلى مفهوم بسيط ولكنه مهم للغاية وهو أن الاعتبار الداخلي للحضارة البشرية - مثل الخير والكرامة - أكثر أهمية بكثير من مجرد الظاهر الجسماني. كما تؤكد أيضاً على هشاشة الافتراضات المرتبطة بالأحكام الأولى بناءً على مظاهر خارجية فقط. فهي تُبرز أن سلوك الإنسان وعقله وطبعه الحقيقي هما المعيار الأصيل للتقدير والإجلال وليس حجمه أو طوله أو وزنه أو صحته.
وتتناول الأبيات بعض المقارنات الحيوانية لإظهار نفس المعنى: بينما تعتبر بغاث الطيور أقل حجماً وموضع اهتمام عام، إلا أنها تحمل داخلها القدرة على التربية والانتشار والتكاثر. وكذلك الأمر بالنسبة لأصغر فراخ الطيور، تبدو ضعيفة لكنها تتطور لتكون أقوى منها بلا شك تحت اسم الصقور والأسرى. ومع ذلك، حتى لو كانت حيوانات عظيمة مثل الإبل كبيرة الحجم، فإن ضعفها وعدم قدرتها على الدفاع عنها يشيرون إلى أنه بدون العظمة الروحية والعزم والعاطفة الحميدة، فالكمال الجسدي ليس سوى عبء ثقيل.
وفي نهاية المطاف، يكرر الشاعر رسالته المركزية بأن تقدير الآخرين لا يتعلق بمكانتهم الاجتماعية أو مظهريهم الخارجي؛ فهو متعلق برؤيتنا لهم كأسماء كريمة بين صفوف مجتمعهم وحتى إن كانوا قلائل نسبيًا، فهم يمتلكون تأثير واسع المدى إذا اتخذوا المنطلق المناسب نحو التفوق الأخلاقي والمعنوي. وهكذا تدعونا قصيدة "ترى الرجل النحيف فتزدريه" للنظر أبعد في خصائص وجوه العالم ممن نواجه ونعتبر هيئة القلب والمقام الزكي أساس الحكم عليهم!