حق تقرير المصير: جذوره التاريخية وضماناته الدستورية

التعليقات · 1 مشاهدات

تقرير المصير، بمفهومه القانوني والدولي المعاصر، يشكل أحد الأعمدة الرئيسية لحقوق الإنسان وحجر الزاوية في علاقات القوة المتوازنة بين الدول. يرتقي هذا ال

تقرير المصير، بمفهومه القانوني والدولي المعاصر، يشكل أحد الأعمدة الرئيسية لحقوق الإنسان وحجر الزاوية في علاقات القوة المتوازنة بين الدول. يرتقي هذا الحق الجوهري إلى مستوى أولوية عالمية، مدونا ومحفوظا عبر معاهدات واتفاقات دولية عديدة. يرجع أصله إلى عهد النهوض الوطني والحركات التحررية المبكرة التي شهدتها أمريكا الشمالية وأوروبا خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.

في البداية كانت الدعوات لتقرير المصير تنبثق من فكرة "سلطة الشعب"، حيث خرجت الشعوب المنتفضة ضد السياسات الاستعمارية والاستبدادية للنظم السياسية الراسخة آنذاك. لقد رسم رونالدو مونرو الخطوط العريضة لهذه الفكرة بوضوح حين ذكر أنها تتضمن حق كل مجتمع أو دولة في اختيار نظام حكمها بدون تدخل خارجي. وبالمثل، أكد وودرو ويلسون على طبيعتها الضرورية كجزء أساسي للحفاظ على السلام العالمي والعلاقات الإنسانية المتوازنة.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وجدت هذه الفلسفة صدى عميق لدى المؤسسين للأمم المتحدة. ففي الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة، يؤكد بشكل واضح على كون تقرير المصير خيارا أساسيا وغير قابل للتنازل عنه لأي بلد مهما بلغت درجة استقلاله الرسمي. ولا تجوز المساس بهذا الحق إلا ضمن حدود بعض شروط الرعاية المؤقتة للأقاليم الخاضعة للإدارة الدولية. وتنص بنوده أيضا على أنه ينبغي تطبيق إجراءات تصويت مباشرة تشرف عليها المنظمة الأممية نفسها لضمان شرعيتها وعدالتها أمام الجميع بلا استثناء.

ومن منظور آخر، يعد تقرير المصير حجر زاوية لبناء روابط طيبة ومتساوية بين الدول المختلفة. فهو ليس مجرّد مطلب إلزامي لمنظومة العلاقات الدولية فقط بل أيضاً ضمان حرية التصرف والإرادة الذاتية لشعوب مختلفة تسعى لإدارة شؤونها الداخلية وفق رؤاهم الخاصة دون تأثير مباشر من جهةٍ ثالثة. ومن ثم أصبح محل اهتمام كبير لدى مختلف المحاكم والقضاء الدولي باعتباره إحدى الوسائل المقننة لحماية الأقليات والجماعات الثقافية المهددة سياسياً واجتماعياً داخل حدود دساتير تلك البلدان ذات السلطة المزعومة عليهم.

إن احترام تقرير المصير يعني الاعتراف بالصفات الفريدة لكل دولة وشعب دون فرض وصاية خارجية قد تؤدي لمزيد من النزاعات والصراعات التي قلما تثمر نتائج مرضية لطرفي الطيف. إنها دعوة مفتوحة لنظام دولي أكثر شمولا وإنصافاً يستجيب لرغبات واحتياجات البشر كافة بغض النظر عن جنسياتهم أو موقعهم الجغرافي الحالي. وهكذا يبقى حق تقرير المصير محفزا دائما نحو مستقبل أفضل مستند للقيم الأساسية للديمقراطية والمساواة والكرامة للجميع.

التعليقات