تبرز مدينة تيبازة، الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في الجزائر، كشهادة حية على غنى الماضي والحاضر الجزائري. هذه المدينة القديمة ليست مجرد موقع تاريخي مهم فحسب، بل هي أيضًا جوهرة ثقافية نابضة بالحياة تحتفظ بتراثها الروماني والفينيقي الغني عبر مجموعة مذهلة من المعالم.
التاريخ الطويل والمتنوع لتيبازة يعود جذوره إلى زمن الفينيقيين الذين أسسوها كمستوطنة تجارية رئيسية قبل الميلاد. سميت "تيبازة" بسبب موقعها الاستراتيجي بين مدن الجزائر وإيول، وهو ما تعكس اسمها المنحدر من اللغة الفينيقية والذي يعني "الممر". وعلى مر القرون، كانت تيبازة محطة هامة للتبادل التجاري وللحضارات المختلفة التي تركت بصماتها عليها بما فيها الحكم الروماني والإمبراطوريات المسيحية الأولى.
خلال الحقبة الرومانية، ازدهرت المدينة باعتبارها مركزًا كبيرًا للنشاط الاقتصادي خاصة خلال القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد عندما بلغ عدد سكانها أكثر من عشرين ألف شخص. ولكن رغم ذلك، ظلت خلف المدن الأخرى عندما نتحدث عن مجالات العلم والثقافة مثل الفنون والتعليم. ومع ذلك، فقد لعبت دورًا بارزًا كنقطة انطلاق للإرساليات الرسولية المسيحية ونشر العقيدة الجديدة. تُذكر قصة القديسة سالسا بإلقاء رأس تمثال أحد آلهتهم الوثنية في البحر من شواطئها كتعبير عن الولاء لدين جديد آنذاك.
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية ونشوء دول جديدة كالملكية الوندالية، واجهت تيبازة فترة اضطهاد ديني أثرت بشدة على تعداد سكانها حيث اختار العديد منهم الهجرة نحو إسبانيا ابتداءً من العام 484 ميلادي. ومعظم هؤلاء المغتربين لم يعدوا مرة ثانية إلا مع سيطرة الإمبراطورية البيزنطية سنة 523 ميلادية.
تشتهر اليوم بكثرة مواقعها الأثرية والتي تشكل جزءًا حيويًا من تراث البلاد العالمي. ومن أشهر تلك المواقع الضريح الملكي الموريتاني الشهير برومية نسبة للأنساب المحلية له، والمدرج الكبير المصمم بمزيج رائع بين الأقواس والقاعات الكبيرة والدروع الدفاعية القوية. بالإضافة لذلك يوجد البازيليكان لإسكندر وكاتدرائيتها الخاصة بكلٍ منهما وكذلك المتحف الخارجي والمعروف حاليًا باسم "الحلم"، كل هذا داخل الحدائق العامة. ولا يمكن أيضاً تجاهل المقبرة التي تعد واحدة ضمن شبكة واسعة تمتد حتى خارج سور البلدة نفسها.
أما بالنسبة لموقع تيبازة فهو جنوب غرب العاصمة بنحو خمسة وسبعين كيلومتراً فقط ولكنه يشهد نظاماً مطرياً متوازنا للغاية مشابه لما يعرف بالمناطق المعتدلة المعتمدة بشكل خاص على المناخ البحري الشمالي لأوروبا وما يقابلها مباشرة شرقياً بحوض البحر المتوسط نفسه.
وفي النهاية فإن فهم تيبازة ليس مجرد دراسة لعصور مضت وحسب وإنما هو استكشاف لجذور امتزجت فيها حضارة بربرية بفلسفات قديمة ومتداخلة فيما تبدو وكأنها لوحة فسيفساء خلابة تعرض قوة الحياة البشرية واستقرار المجتمع الإنساني منذ القدم وحتى يومنا الحالي.