كانت مملكة الرها، الواقعة في شمال بلاد الشام قرب الجزيرة السورية، مركزًا هامًا للحضارة السريانية القديمة منذ القرن الثالث قبل الميلاد تقريبًا. يُرجح أنها سُميت بهذا الاسم بسبب موقعها الاستراتيجي بالقرب من نهر الفرات ونوع التربة هناك والتي تشبه "الرَّهْ"، وهو نوع من الطمي الأحمر الناعم حسب بعض المؤرخين. وفقًا للتقاليد التاريخية، أسس مملكة الرها الملك العربي نمرود، ثم جاء الملك السلوقي سلوقس نيكاتور وأطلق عليها اسم أديسا تكريمًا لإحدى بناته.
منذ تلك الفترة المبكرة، اتسمت مدينة الرها بتنوع حضاري كبير نتيجة تواجد شعوب مختلفة مثل الفرس والعرب والسوريين واليهود. وبالتحديد، شكل اليهود جزءًا مهمًا من السكان مما منح المدينة طابعًا مميزًا بين مدن المنطقة الأخرى. كما تعددت نسب الأسرة الحاكمة خلال فترة حكمها التي امتدت لقرون عدة حتى سقوطها أمام الغزو الروماني حوالي العام ١١٦ ميلادية.
لعبت مملكة الرها دورًا رائدًا في نشر الثقافة المسيحية خاصة بعد اعتماد الدين المسيحي كدين رسمي لها مُبكراً. بالإضافة لذلك، أصبحت مركزًا رئيسيًا للأدب والعلم السرياني تحت رعاية العديد من الشخصيات البارزة أمثال الفيلسوف Bardaisan المعروف أيضًا باسم Bardiṣān الذي ترك بصمات واضحة في مجال الموسيقى والشعر والفن التشكيلي إضافة لدراسات اللاهوت والدين.
في الجانب التعليمي الأكاديمي، اختارت المملكة استخدام لغة سهلة القراءة نسبياً تسمى بالأرامية الوسيطة -أو البشيطا- لترجمتها أول نسخة معروفة للعهد الجديد من الآرامية إلى الإنجليزية عبر مفرداتها بسيطة ومباشرة. هذا الأمر جعل الرها ملتقى طلاب علم وشغوفين بكل أنواع المعرفة من جميع أنحاء العالم آنذاك.
خلال عمرها الطويل، حافظت مملكة الرها على تنوع تكوين مجتمعاتها وأظهرت قدرة فريدة على دمج الثقافات المختلفة داخليا وخارجيا ليصبح ذلك عامل قوة تساهم بانفتاح البلاد وحوار الحضارات واحتفائها بالتعددية الثقافية كجزء أصيل من مكانتها العالمية حينئذٍ بدون تفريط بموروثاتها المحلية الخاصة بها كأي دولة أخرى عبر الزمن.