تحفة بلاغية: تجليات الفن الشعري في حديقة الغروب لغازي القصيبي

التعليقات · 0 مشاهدات

تنزوي "حديقة الغروب"، إحدى روائع الشعر العربي الحديث، تحت مظلة الفكر الإنساني والعاطفة النابضة، مستخدمةً أدوات بلاغية متنوعة تعكس العمق النفسي للشاعر

تنزوي "حديقة الغروب"، إحدى روائع الشعر العربي الحديث، تحت مظلة الفكر الإنساني والعاطفة النابضة، مستخدمةً أدوات بلاغية متنوعة تعكس العمق النفسي للشاعر وتصور حالاته الداخلية بدقة متناهية. يتميز شعر غازي القصيبي، المعروف بمدرسة الواقعية والتعبير الشخصي القوي، بقدرته على توظيف اللغة بطريقة مؤثرة ومتفاعلة مع النفس البشرية.

ومن أبرز تجليات البلاغة في "حديقة الغروب": استخدام التشبيه الاستعماري المتعدد، والذي ينقل مشاعر الوحدة والحيرة عبر مقارنات جميلة مثل "أنا شبح يهيم ما بين أغلال وأسوار". يؤكد هذا التشبيه على سمات الشاعر الذاتية، موضحا كيف تخيم عليه أحاسيس اليأس والشجن بقوة، حتى أنه يشعر بأنه ظل مجرد أو روح طائشة بلا هدف واضح.

وفي السياق نفسه، تأتي الاستعارة المكنية لتضيف طبقات جديدة من التأويل والدلالات العميقة. عندما يقارن الشاعر ورد الحديقة بابن آدم باكياً مغموراً بالحزن ("الطير هاجر... والأغصان شاحبة.. والورد أطرق يبكي عهد آذار"), فإن الصورة تصبح أكثر حساسية وتعاطفاً. فالورود رمز للحياة الجميلة والحساسة، وبالتالي فألمها يدل على سوء الحالة العامة للوجود. وبالمثل، تصير الأشجار التي تسقط أوراقها علامة واضحة للتدهور والمرارة الشخصية. وينعكس ذلك أيضاً حين يرسم صورة لتقدم العمر ثمرة خيبة وخيبة أمل ("هذه حديقتي للأعمار عند المغيب... كأنها مرعى خريف جائعا ضارا"). كل هذه المقارنات الاستعارية تكشف عن اجترار الماضي المرير والمعاناة المستمرة.

كما تلعب الكناية دور مهم في رسم شخصية المؤلف وشخصيات أخرى مرتبطة به ارتباط وثيق. تنضح عبارتان "وكان يحمل درياه بين اضلاعه" و"لم أباع قلمه ولم ادنس سوق الرياء افكاري" بالأمانة والإخلاص تجاه الوطن والقيم الأخلاقية الراسخة داخل نفس الشاعر. وهنا يمكننا رؤية مدى تأثير الانتماء العقلي للعائلة والفكرة الوطنية في أعمال الشاعر الرائدة.

وعلى الرغم مما سبق ذكره، إلا أن الطباق يعد أحد تقنيات البلاغة الأكثر حضورًا في ديوان "حديقة الغروب". وفي أبياتا مثل "يا عالما بالغيب! ذنبي انت تعرفه "وتعلم انعراحي واستراري" ، يكمن قوة التحوير الصوتي في تقديم تصوير بصري مكثف لرؤية الله الأعلى وعلاقة المؤمن معه. إنه يجمع تناقضات الحياة الروحية - السرية والنشر المفتوح - جنباً إلى جنب لإظهار الثنائيات الموجودة داخله والتي تتحدى فهمنا التقليدي للجنة والجحيم.

تختتم "حديقة الغروب" نداءً صادقًا نحو الصفح والمغفرة ("إذا سؤلت عنها قول بأن لم ابيع نفسي ولست قد خان الاوفياء") وهي رسالة ذات صدى واسعي تمتد خارج حدود النص الشعري مباشرة باتجاه المجتمع الكبير الذي وجد فيه القصّاص شاهداً علي الظلم الاجتماعي اليومي لأجياله . إنها دعوة لاستعادة العدالة وإنهاء حقبة الانقسام وعدم المساواة التي عاشها الشعب السعودي منذ عقود عديدة. وبذلك يجسد عمل القصيبي ليس فقط تجربة فرد واحد ولكن أيضًا صوتاً اجتماعية شاملة تستحق الاستماع إليها تقديرا لقيمتها الإبداعية والاستراتيجية التاريخية الطويلة المدى لها

التعليقات