في قلب تونس العريقة تكمن مدينة القيروان، التي كانت ذات يوم مركزاً رئيسياً للحضارة الإسلامية وتاريخها المجيد. وفي هذه المدينة، نجد قصة حياة فتاة تركت بصمة واضحة وملهمة للباحثين والتاريخيين حول العالم. إنها "زينب بنت غالب"، الشاعرة المتألقة والمؤرخة البارعة والتي عاشت خلال القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي.
ولدت زينب في عائلة مرموقة في القيروان عام 755 هـ الموافق لعام 1354 ميلادية. نشأت وسط بيئة تعزز العلم والثقافة والأدب، مما كان له تأثير عميق عليها منذ سن مبكرة. بدأت دراستها مع أشهر علماء عصرتها مثل ابن دقيق العيد وابن الجزري، الذين كانوا يشجعون مواهبها الشعرية والفكرية الفذة.
كان شعر زينب يجسد هموم المجتمع وسعاداته، وكان يعكس روح الإصلاح الاجتماعي والديني أيضًا. كتبت العديد من القصائد التي تصور جمال الحياة وألم الظلم والبحث الدائم عن العدالة الاجتماعية. أحد أشعارها الأكثر شهرة يدعى "أَلا يا وَطَنُ لا أَدَعِي كُلِّ ذِمَمٍ".
إلى جانب موهبتها الشعرية، برعت زينب في مجال التأليف والتاريخ. كتب لها كتاب تاريخي مهم يسمى "تاريخ الأندلس"، والذي يعتبر مصدر ثاقب لدراسة فترة الحكم الأموي والإسلامي في إسبانيا. هذا الكتاب يكشف تفاصيل دقيقة عن السياسة والحروب والصراع الثقافي بين المسلمين والنصارى خلال تلك الفترة الحساسة.
على الرغم من كونها امرأة في عصر لم يكن فيه التعليم متاحًا للمسلمات دائمًا، إلا أن زينب تحدت هذه العقبات وأصبحت رمزا للإنجاز النسائي في عالم مليء بالتحديات. توفيت عام 829 هـ /1426 م تاركة وراءها تراثاً ثقافياً وفكرياً أثراً خالداً حتى وقتنا الحالي.
وتظل شخصية زينب بنت غالب مثالاً حيّاً لقوة المرأة العربية وإمكاناتها غير المحدودة عندما تتاح لها الفرص المناسبة للتطور الأكاديمي والأدبي. إن قصتها هي شهادة على مرونة الروح الإنسانية وعزم الإنسان على تحقيق طموحاته بغض النظر عن الحدود المفروضة عليه.