تعد البيئة والأماكن التي تجري فيها الأحداث أحد العناصر المحورية في الروايات، والتي تلعب دورًا مؤثرًا في تشكيل شخصياتها وأحداثها. وفي هذا السياق، تستحق رواية "شرق المتوسط" للدكتور غسان كنفاني اهتماماً خاصاً فيما يتعلق بدور المكان والبيئات المختلفة التي تصوّرها داخل النصّ الأدبي.
في هذه الدراسة التحليلية، سنستعرض كيف استغل الدكتور كنفاني المكان باعتباره وسيلة فنية لتعزيز رسالة الرواية وتعريف القارئ بتفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. تبدأ الرحلة عبر الزمن والمكان مع الشخصية الرئيسية علي، وهو شاب فلسطيني يعيش حياة متواضعة بالقرب من خليج صور اللبناني. هنا يطرح لنا الكاتب صورة حية عن بيئة البحر والشاطئ والتقاليد البحرية القديمة لهذه المنطقة. يتميز وصف المشاهد الطبيعية بالرومانسية الخالصة، مما يجسد جمال الأرض الفلسطينية ويُبرز ارتباط الشخصيات بها إلى حد ما يشبه الديناميكية بين الإنسان وزوجته - علاقة وثيقة ومحبة ومعقدة أيضًا بسبب الظروف السياسية السائدة آنذاك.
وبينما ينتقل بنا الحكاية نحو مدينة صفد المهيبة شمال فلسطين، تتغير المشاهد الجغرافية لتسلط الضوء على تعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي وتأثيرات ذلك على السكان المدنيين. تُعتبر مدينة صفد رمزاً قوياً للتراث الثقافي الفلسطيني؛ فهي تحمل تاريخاً طويلاً من النضال ضد الغزاة والحفاظ على الهوية الوطنية للفلسطينيين. إن استخدام الكاتب لمصطلحات محلية مثل "الحارة"، و"المقهى الشعبي"، و"البازّار القديم"، يساهم بشكل كبير في خلق أجواء واقعية وغنية ثقافياً تسحب القراء مباشرةً إلى قلب الحدث التاريخي والجغرافي المصور.
علاوة على ذلك، فإن انتقال المؤلف ذهاباً وإياباً بين مواقع مختلفة ضمن إطار زمني قصير نسبيًا يساعد كثيرًا في توضيح مفهوم الخطر المستمر الذي كان يداهم سكان تلك المناطق يوميًا. سواءٌ أكانت رحلات اليابسة أم البحار أم حتى التنقل عبر الأحياء الداخلية الصغيرة، فإن كل حركة يقوم بها بطل الرواية تذكر الجمهور بأن أي مكان قد يحتفظ بمصدر خطر محتمل كامن خلف الظهور وما فوق الأمواج الفضية الفضية للساحل.
وفي النهاية، يمكن القول بأن قدرة غسان كنفاني الاستثنائية على تصوير الواقع المعاش عبر عينيه الثاقبتين كمراقب وكاتب جعلت منه شخصية أدبية بارزة قادرةٌ على توجيه انتباه العالم نحو قضية شعب بأكمله. فعبر سرد قصة بسيطة لشخص واحد وحياة عائلته البسيطة، انبرى لإظهار التعقيدات الاجتماعية والنفسية والفلسفية للقضايا الأكبر خارج حدود منزل صغير بحجم غرفة واحدة! إنه بالفعل عمل ادبي يستحق التأمل حقاً!