لقد ترك اليونان بصمة واضحة ومؤثرة في تاريخ الرياضيات العالمي، حيث شهدت مساهمة كبيرة في تطوير العديد من فروع هذه العلوم الهامة مثل الهندسة، وعلم الفلك، والديموغرافيا. يعود جذور هذه الثورة الرياضية إلى القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا عندما بدأ التواصل الثقافي المتزايد بين الحضارتين المصري والإيونية يؤثر عميقًا على المناخ الفكري للشعب اليوناني آنذاك.
كان لطاليس من ملطية (625-546 ق.م) دور محوري حيث يُعتبر أول عالم رياضي يوناني معروف بغزواته الاستنتاجية واستخداماته العملية للعلاقات المثلثية والأشكال الجغرافية. كما مهد الطريق لبنية حساب التفاضل والتكامل الحديثة بمفهومه الشهير "إذا تساوى خطان في اتجاه واحد فهما يساويان في الاتجاه الآخر".
بالانتقال لنصف القرن الثاني قبيل الميلاد، برز اسم فيثاغورس مؤسس مدرسته التي أكدت أهمية العلاقات الطويلة والعريضة للأرقام، والتي أدت لاحقا لإحدى أشهر نتائجه؛ نظرية فيثاغورس الخاصة بالمربعات الجانبية للمثلثات القائمة الزاوية. إلا أنها لم تكن مجرد تجربة خالصة، إذ امتد تأثيره أيضا لعلم الموسيقى وفلسفته بشأن كون العالم بناءً عدديًا مطلقاً.
خلال الفترة الهلنستية (حوالي 300 ق.م)، ازداد تقدم الرياضيات زخمًا نتيجة وجود تجمعات سكانية متنوع ثقافياً واقتصاديًا مما خلق بيئة خصبة للإبداع والحوار المعرفي المتنوع. ومن أمثلة ذلك انتقال المركز الثقافي والمعرفي الرئيسي من إليوس إلى الإسكندرية عقب الغزو الألكساندر الكبير وانتشار أفكار البابلي والكلداني حول مضمار العدسات الكروية وهو الأمر ذو الجدوى القصوى لحساب حركة الأجرام السماوية واتجاهات النجوم وغيرها الكثير مما اعتبرت نواة علوم مشابهة حالياً كالستاتيكا والجيوفيزياء أيضًا.
وتماشيا مع هذه الموجة الجديدة للاكتشافات، فقد تبنى اليونان نظام الرقم سداسي القاعدة والذي سرعان ما تغرس عميقا داخل مجتمعهم ليحل محل سابقيه الثلاثيين. وهذه الخطوة المبتكرة أتاحت فرصة فرعية لكلٍّ من الدائرة والشمس والقمر للاستيفاء بما يقارب ثلاثمئة وستين جزء بالتساوي وبالتالي تشكيل فهم معماري جديد لأبعاد جميع المقاييس المرئية والأفقية بالنسبة لبني البشر حين ذاك.
وعلى الرغم من عدم توفر كم هائلة من الوثائق الأولية مباشرة منذ تلك الحقبة التاريخية المبكرة جدا، إلّا أنه يمكن لنا اليوم جمع المعلومات الأكثر اطلاعا عن رحلة الرياضيات باستخدام مجموعة متنوّعة وخيارات مختلفة لسجلاتها كتلك المكتوبة بواسطة مخُطَّطات مكتوبة قديمة جدًا ترجع نسبتها لـ ٥ قرنًا وما فوق في بعض المواضع إضافة لتعدد الترجمات اللغات الأخرى -على نحو خاص اللغة العربية– لما كتب أصلاً بلغتهم الأم والتي تعتبر مصدر ثالث رفيع لمن يحرص الحصول عليها روحا وصورة بإخلاص وإخلاص. لذلك فإن دراسة التاريخ الأوروبي باعتباره راسخ ومتشعب يشابه حقول أخرى كثيرة تحتاج إليها العين الناقدة إن وجدت فقط لتحليل مدى جدواه وصلاحيتها للتطبيق العملي والاستعمال العمودي التصاعدي مستقبليا كذلك.
هذه نبذة مختصرة ولكنها شاملة لرحلة مجيدة للرياضيات اليونانية منذ نشوئها الأولي حتى بلوغ الذروة الإنسانية فيها اثناء الجمهورية الرومانية فيما بعد لاتخاذ طرق مستقلة بطبيعتها لكنها مرتبطة ارتباط وثيق بتاريخ سابقتها القديم الخالد دائم الخلود...