يمثل تاريخ لبنان سلسلة متداخلة من التأثيرات الثقافية والتجارية والعسكرية التي شكلتها الموقع الجغرافي المتميز للدولة الصغيرة الحيوية الواقعة عند مفترق طرق العالم القديم. يمتد هذا التاريخ الطويل إلى آلاف السنين حيث استوطنت الشعوب المختلفة أرض الـ "لبنان"، كما يعرف اليوم. يعود أول تسجيل موثوق لاستيطان بشري إلى العام ٣٠٠٠ ق.م تقريبًا عندما بدأ الفنيقيون - وهم شعب ذو مهارات بحرية بارزة - في إنشاء مستوطنات على طول ساحل البحر المتوسط، خاصةً في المدن الرئيسية لصيداء، صور، والجبييل. سرعان ما أصبحت تلك المستعمرات مراكز رئيسية للتجارة ونشر الثقافة الفينيقية القوية.
مع مرور الزمن، شهدت لبنان تحولات سياسية كبيرة مع تعرضها للغزوات والحروب المتعددة. فقد كانت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهي فترة تركت بصمة عميقة في البنية الاجتماعية والدينية للبلاد حتى الآن؛ إذ أدخل المسيحية كديانة رسمية. ثم جاء دور الأمم الأخرى مثل الأشوريين، والإيوبيين، والبابليين، والبيزنطيين، والمماليك، والعثمانيين ليضيف كل منهم طبقة أخرى من التعقيد السياسي والتراث الثقافي لموروث لبنان التاريخي.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تغير مسار التاريخ مجددًا حين تولّى الفرنسيون زمام الأمور واحتلوا لبنان مؤقتًا وفق شروط الانتداب الدولي آنذاك. وفي الفترة من ١٩٢٠ إلى ١٩٤٣، شرعت السلطات الفرنسية بتشكيل بنيان الدولة الحديثة تحت اسم 'لبنان الكبير'. وأخيراً حصل البلد على استقلاله الرسمي سنة ١٩٤٣ لينطلق نحو مرحلة جديدة كتبت لها صفحات مشرقة وملونة بالأحداث السياسية والنضالات الوطنية الطموحة.
وعلى الرغم من وضعه الجغرافي الصغير نسبياً، إلا أنه يتمتع بموقع استراتيجي حيوي ضمن منطقة ذات أهمية عالمية بسبب موقعه الذي يشرف مباشرة على شرق البحر الأبيض المتوسط. جغرافياً، تحدّه إسرائيل (الفلسطين سابقا) من الجنوب وسوريا من الشرق بينما تمتد مياه البحر الزرقاء أمام ساحله الغربي الخلاب والذي يحرسه نظام غير عادي لجبال لبنان الشاهقة والتي تمتد لأكثر من ٢٧٥ كيلومتراً داخل البرتغال. بالإضافة لذلك، فان وادي البقاع الداخلي يعمل كبوابة زراعية أساسية تربطه بالمحيط الخارجي ويوفر له مصدر رزقه الرئيسي منذ القدم.
إن تفاصيل رحلة لبنان عبر عشرات قرون مضت تشكل قصة فريدة مليئة بالصعود والسقوط والصمود الإنساني الرائع رغم المحن العديدة والتهديدات الخارجية الدائمة والتي جعلت منه رمز للإصرار والتكيف والثبات وسط نشاز التحولات الدولية المتكررة بلا هوادة.
