في رحاب الدين الإسلامي الشريف، هناك مفهوم غالي وثمين وهو "الخبيئة". تُعتبر الخبيئة تمثل قمة العلاقة الحميمة بين المؤمن وخالقه، إنها العمل الصالح الذي يقوم به المرء سراً، بدون علم الآخرين أو مشاركة المجتمع العام. هذه الخبيئة ليست مجرد أعمال روتينية يومية، بل هي تعكس حالة الروح المتواقة للتقرب إلى الله عز وجل.
الخبيئة هي زينة النفس المؤمنة، ومن خلالها يشعر المسلم بإنجازه الشخصي وحسابه الخاص أمام الرب الرحيم. إنها اختبار الصدقية والإخلاص الديني، حيث لا مكان فيها للنفاق أو الرياء. المؤمنون الصادقون هم الذين يتميزون بحسن نياتهم وممارساتهم اليومية القائمة على الحب والتقديس لله الواحد الأحد. تخيل لو أن الإنسان يفكر دائماً فيما يقول وما يفعل أمام الناس! هذا قد يدفعه نحو تكرار نفس التصرف مرات عديدة لتكون موافقة لرغبة العامة، بينما في الخبيئة يعمل المرء بكل قلب ونقاء لله وحده فقط.
فضل الخبيئة كبير جداً، فهو يساعد الفرد على الثبات عند المصاعب والمحن، خاصة عندما يكون العالم الخارجي مشغولاً بالمظاهر الخارجية والشكلانية الدينية. بالإضافة لذلك فإن الأعمال التي تتم سرّاً لها ثواب وافر لأنها أقرب للقلب والعاطفة البشرية، مما يزيد من قدرتها على التأثير والنماء الروحي. علاوة على ذلك تعتبر الخبيئة نوع من الاستثمار الأناني الذي يجني ثماره الرجل في أحلك لحظاته، فتكون له عونا ودعماً متجدداً أثناء الضيق والأزمات. ليس فقط أنها وسيلة للتطهير النفسي والصعود الروحي للأرواح الطاهرة ولكن أيضاً هي الطريق للحصول على بركات الجنة وفوز المحبة الإلهية.
على سبيل المثال، يمكنك أداء بعض الصلوات الخاصة بعد انتهاء ساعات الراحة الرسمية (مثل صلاة الفجر) دون علم الغالبية؛ وهذا عمل رائع يكون ذو تأثير جميل ومرتفع لدى الباري القدير لأنه انبعاث داخلي نقِ للشخصيته الشخصية وليس خارجياً رسمياً واجتماعياً. كذلك الأمر بالنسبة لإخراج الصدقات بطرق مخفية وغير مفصلة علنياً أمام الجميع؛ فهذا دليل واضح وصارخ لصاحب تلك المعاملة بأنه يسعى للسعادة الحقيقية خلف ستار التعامل مع الذات الداخلية بدافع عظيم واحتشام شديد تجاه الوحدانية الكاملة للغيب العزيز.
إن مثال النبي محمد صلى الله عليه وسلم خير شاهد حي لدور الخبئاة في الحياة الإسلامية المقدسة حيث قضى الكثير من حياته الأولى برفقة الصحابة الكرام وهم يخوضون مختلف التجارب تحت جنح الظلام، بما فيها تبشير رسالة الحق والدعوة إليها سرا قبل الاعلان الرسمي عنها لاحقا بناءً على توجيهات سماوية مباشرة منه –عليه السلام-. وكلمة واحدة هنا مهمة للغاية لكل فطن: "إذا بلغ العلم بيت المال فقد هلك" حسب حديث شريف صحيح رواه مسلم وابن ماجه وابن حبان والحاكم وغيرهم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه -رضي الله عنه-. فالخبئاة فضيلة تشغل المقابل الاجتماعي بالحياة الخاصة الفردية والتي تستحق الاحتفاظ بسرية كاملة وعدم تضليل صنعيتها ظاهرياً لعوام المسلمين بالتزامها بالإعلان العلن للمصالح المثالية الاجتماعية آنذاك وفق السياق الزمني التاريخي للجماعة الناشئة آنذاك.
كما تجسد لنا سيرتهم العطرة نموذجين رائعين لشخصيتين اثنتين عاشتا حالة خبئية فريدة عبر حقبتين تاريخيتين مختلفتين تمام الانقطاع ولكنهما اتحدتا بوحدة هدف نبيل واحد...