كيسنجر وحرب أكتوبر: إسرائيل أولاً خلال سنواته الثمانية في البيت الأبيض، كان كيسنجر هو الرجل الأهم ف

كيسنجر وحرب أكتوبر: إسرائيل أولاً خلال سنواته الثمانية في البيت الأبيض، كان كيسنجر هو الرجل الأهم في رسم سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع في الشرق

كيسنجر وحرب أكتوبر: إسرائيل أولاً

خلال سنواته الثمانية في البيت الأبيض، كان كيسنجر هو الرجل الأهم في رسم سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع في الشرق الأوسط. يمكن معرفة ذلك من خلال قراءة الأجزاء الثلاثة لمذكراته أو من خلال الإطلاع على الفصل الذي كتبه عن الرئيس السادات في كتابه الأخير Leadership (القيادة) والذي صدر عام 2022، أو من خلال الإطلاع على دوره في كتاب "أكتوبر السلاح والسياسة" لمحمد حسنين هيكل.

رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قررت نقل العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى مرحلة التحالف العسكري والسياسي بعد حرب 1967، إلا أن كيسنجر، عندما دخل البيت الأبيض عام 1969 كمستشار للأمن القومي للرئيس نيكسون، تعامل مع العلاقة الأمريكية الإسرائيلية باعتبارها ملفاً شخصياً ويهودياً وعائلياً. فقد كتب أنه كان يتعامل مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير باعتبارها خالته التي أحياناً تكون راضية عنه أو تقوم بتوبيخه عندما تشعر أنه لا يستجيب كفاية لمطالب إسرائيل.

في الأشهر السابقة على اندلاع القتال في 6 أكتوبر 1973، انخرط كيسنجر في محادثات سرية مع المصريين عبر مستشار السادات للأمن القومي حافظ اسماعيل. كانت رؤية كيسنجر للصراع في الشرق الأوسط مبنية على أمرين: الأول هو الحفاظ على أمن إسرائيل، والثاني هو اعتبار الصراع في الشرق الأوسط ساحةً رئيسية من ساحات الحرب الباردة حيث السلاح الأمريكي يواجه السلاح السوفيتي، وحلفاء واشنطن مقابل حلفاء موسكو.

في مذكراته Years of Upheaval (سنوات الاضطرابات، والتي صدرت باعتبارها الجزء الثاني من ثلاثيته الضخمة) يسرد كيسنجر تفاصيل دوره في حرب 1973 منذ أن كان نائماً في صباح السادس من أكتوبر في جناحه بفندق والدورف في نيويورك، والتي كان موجوداً بها من أجل حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. يكتب كيسنجر أن مساعده لشؤون الشرق الأدنى جوزيف سيسكو أيقظه في الساعة السادسة والربع صباحاً ليخبره أن مصر وسوريا وإسرائيل على وشك الدخول في حرب، وأن كيسنجر اعتقد وقتها أن الأطراف الثلاثة قد أخطأوا في قراءة نوايا بعضهم البعض، وأنه يمكن تجنب الحرب بينهم.

يقول كيسنجر أن سيسكو أخبره أنه تلقى رسالة عاجلة من سفير واشنطن لدى إسرائيل كينيث كيتينغ، والذي اجتمع مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير وأخبرته أن تحركات القوات المصرية والسورية أصبحت في وضع يسمح لها بالهجوم، وليست مناورات كما فسرتها إسرائيل والولايات المتحدة سابقاً. "ذكّرها كيتينغ بأنه قبل اثنتي عشرة ساعة فقط أكد له مسؤولو وزارة الدفاع الإسرائيلية أن الوضع ليس خطيرًا. أجابت السيدة مائير أن هذا لم يعد دقيقاً؛ أصبح الإسرائيليون الآن مقتنعين بأنه سيتم شن هجوم مصري سوري منسق في وقت متأخر من بعد ظهر ذلك اليوم. واقترحت أنه بما أن العرب سيهزمون بالتأكيد، فإن الأزمة يجب أن تكون ناجمة عن سوء فهمهم للنوايا الإسرائيلية."

طلبت جولدا من السفير الأمريكي أن تقوم واشنطن بنقل رسالة عاجلة إلى الاتحاد السوفييتي وكذلك إلى "جيران إسرائيل العرب أن إسرائيل ليس لديها أي نية لمهاجمة مصر أو سوريا." وأضاف كيسنجر أن "إسرائيل كانت تستدعي بعض قوات الاحتياط، ولكن كدليل على نواياها السلمية، توقفت عن التعبئة العامة. وسأل كيتينغ جولدا عما إذا كانت إسرائيل تخطط لتوجيه ضربة استباقية. وأكدت جولدا بشكل قاطع أن إسرائيل ترغب في تجنب إراقة الدماء. ولن يؤدي ذلك تحت أي ظرف من الظروف إلى بدء الأعمال العدائية."

ويختم كيسنجر هذه الفقرة المثيرة بالقول: "عندما أيقظني سيسكو، لم يكن هناك سوى تسعين دقيقة من السلام في الشرق الأوسط. لقد تمكنت مصر وسوريا من إخفاء استعداداتهما للحرب بمهارة كبيرة لدرجة أن الإسرائيليين، حتى في هذه المرحلة، توقعوا أن يأتي الهجوم بعد أربع ساعات من الوقت المحدد بالفعل."

ويسرد بعد ذلك كيسنجر تفاصيل اتصالاته بسفير موسكو لدى واشنطن وبوزير الخارجية المصري محمد حسن الزيات الذي كان موجوداً في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن المفارقات أن كيسنجر ناقش مع الزيات كيف يمكن إطلاق مفاوضات للسلام في الشرق الأوسط في اليوم السابق، وأن واشنطن قررت أن تبدأ العمل على ذلك مباشرةً بعد الانتخابات العامة الإسرائيلية التي سوف تجري يوم 30 أكتوبر. وخلال حديثهما الهاتفي الساعة السابعة صباحاً (بتوقيت نيويورك) يوم 6 أكتوبر، تأكد كيسنجر أن الزيات لم يكن على علم بأن هناك حرب على وشك أن تندلع وأن السادات لم يشارك خططه سوى مع عددٍ محدود من المسؤولين المصريين، ليس من بينهم وزير خارجيته.

وفي الساعة 7:35 اتصل كيسنجر مرةً أخرى بالزيات ليخبره بتعهد إسرائيل بعدم القيام بأي هجوم أو تحرك عسكري، وأن الولايات المتحدة تضمن التعهد الإسرائيلي. لكن في الساعة 8:15 صباحاً اتصل الزيات بكيسنجر ليخبره برد القاهرة بأن إسرائيل قامت "باستفزاز" مصر عندما هاجمت وحداتها البحرية وطائراتها مواقع مصرية في خليج السويس، وأن القوات المصرية تعاملت مع الموقف وتم إعلان ذلك في بيان رسمي. لم يصدق كيسنجر الزيات، ولكنه اتصل بوزير الخارجية الإسرائيلية آبا إيبان الساعة الثامنة وخمسة وعشرين دقيقة صباحاً والذي أبدى له تشككه فيما قاله الزيات لكيسنجر، ولكنه سوف يتصل على الفور بإسرائيل للتأكد.

وفي الساعة الثامنة وتسعة وعشرين دقيقة، اتصل القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية في واشنطن موردخاي شاليف بكيسنجر ليخبره بأن الطائرات المصرية والسورية بدأت منذ نصف ساعة بمهاجمة المواقع الإسرائيلية في سيناء والجولان ولكن لا توجد معلومات لديه عن تحركات برية، وليس لديه علم بهجوم نفذته وحدات بحرية إسرائيلية على خليج السويس. وهكذا علم كيسنجر باندلاع أكبر مواجهة عسكرية بين إسرائيل ومصر وسوريا منذ ست سنوات!

لكن رغم السرية التي أحاط بها السادات موعد بدء الحرب، فإنه قرر أن يرسل لكيسنجر في اليوم الأول تأكيداً بشأن محدودية أهدافه العسكرية. في كتابه Leadership (القيادة) كتب كيسنجر: "في اليوم الأول من الحرب، أبلغني السادات، عندما كنت وزيراً للخارجية آنذاك، أن أهدافه محدودة وأنه ينوي بذل جهود لتسهيل مفاوضات السلام بعد انتهاء الأعمال العدائية. وفي اليوم الثاني للحرب أجبت: "أنت تشن حربًا بالأسلحة السوفيتية. ضع في اعتبارك أنه سيتعين عليك صنع السلام مع الدبلوماسية الأمريكية."

كان كيسنجر مدركاً أن السادات قرر أن يراهن على دور الولايات المتحدة في المنطقة كبديل للدور السوفيتي، وأن هذا يعني أنه فور توقف القتال، سوف يكون السادات مستعداً للانخراط في الجهود الأمريكية للتوصل لتسوية مع إسرائيل. وبالتالي سعى كيسنجر لتقوية موقف إسرائيل خلال الحرب من خلال الجسر الجوي الأمريكي غير المسبوق، ومن خلال العمل على مدار الساعة وبأقصى جهد في التواصل مع موسكو من أجل ضمان التوصل لوقف لإطلاق النار في التوقيت المناسب وفق الحسابات العسكرية الإسرائيلية.

وسواء تم الإطلاع على رواية كيسنجر للحرب والمفاوضات التي تلتها في الفصول الثلاثة الكبيرة التي احتلتها ضمن مذكراته، أو تمت قراءة النسخة المختصرة من روايته في فصله عن السادات ضمن كتابه الأخير Leadership، فإنه من الممكن فهم الرؤية السياسية التي نظر بها كيسنجر للصراع في الشرق الأوسط، والتي تتلخص في توظيف السياسة الخارجية للولايات المتحدة لضمان أمن إسرائيل، وذلك من خلال رعاية مفاوضات فض الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية وبين القوات السورية والإسرائيلية في أعقاب الحرب، أو رعاية مؤتمرات للسلام مثل مؤتمر جنيف للسلام في ديسمبر 1973.

ولتحقيق هذا الهدف، عمل كيسنجر على فصل المسارات التفاوضية بين الدول العربية وبين إسرائيل. وفي مذكراته كتب أن مؤتمر جنيف كان وسيلة لتمكين كل طرف من اتباع مسار منفصل، والذي أدرك أنه في الحالة المصرية كان يعني تصميم السادات "على عكس تحالف مصر مع الاتحاد السوفيتي وإقامة علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة. كانت هذه مناورة دقيقة ومحفوفة بالمخاطر. وحين يأخذ موقفاً وسطاً، كان يخاطر بأن يكون بعيداً جداً عن الاتحاد السوفييتي بحيث لا يتمتع بدعمه الدبلوماسي، لكنه ليس قريباً بما يكفي من الولايات المتحدة كي تدافع عن الموقف المصري."

قرأ كيسنجر جيداً معضلة السادات بعد وقف إطلاق النار والتي وصفها بدقة عندما كتب أن السادات "واجه معضلة مماثلة في علاقاته مع إخوانه العرب. فالسادات لن يتمكن من تحقيق هدفه أبداً إذا سمح لسوريا باستخدام حق النقض على سياسته؛ ولكن إلى أن يبدأ عملية السلام الخاصة به، كان السادات في حاجة إلى التهديد بالعودة للعمل العسكري كورقة مساومة، وهو التهديد الذي لم يكن له أي مصداقية في غياب تحالفه مع سوريا. كان السادات معلقاً بين القوى العظمى، وحذراً من سوريا ومع ذلك معتمداً عليها في المواجهة، فقد رأى في مؤتمر جنيف شبكة أمان، ومنتدى يمكنه اللجوء إليه إذا فشلت كل الطرق الأخرى."

لأن كيسنجر كان مرجعاً أساسياً لكل الدبلوماسيين الأمريكيين الذين عملوا على ملف عملية السلام في الشرق الأوسط ضمن الإدارات الأمريكية التي أعقبت خروجه من البيت الأبيض، فإن تكتيكات كيسنجر التي اتبعها خلال وبعد حرب أكتوبر 1973 مثل "الدبلوماسية المكوكية" التي دشنها برحلاته بين القاهرة وتل أبيب ودمشق، والحرص على المسارات التفاوضية المنفصلة بين العرب وإسرائيل، يمكن رؤية تطبيقاتها في كل مفاوضات السلام التي جرت منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.

https://t.co/LSTzcM6WY9


سعدية بن شقرون

3 مدونة المشاركات

التعليقات