وقف هرقليطس بين مواطنيه قبل ألفين وخمسمئة سنة زاعمًا أنه لا يمكن عبور نفس النهر مرتين، واعترف محمود درويش في مقابلة قبل سبعة عشر عامًا أنّ الرواية أوسع من الشعر، وأنّ في قلبه غصّة منها، ثم جاءنا محمد عبد الباري قبل أيام بقصيدته الطويلة هذه ليثبت أنّ الإثنين كانا على خطأ. https://t.co/kpvoAvSm9O
أما هرقليطس، فعلى النقيض من مواطنه بارمينديس، كان يؤمن أنّ التغيّر هو الجوهر الأساسي للكون، وأنّ كل شيء في حالة تدفّق وصيرورة بما في ذلك الزمان والمكان، لذا صاغ مفارقته الشهيرة: لا تستطيع أن تعبر نفس النهر مرتين، ليس لأن النهر تغيّر بعد مرورك فقط، وإنما لأنك أنت أيضًا تغيّرت.
وأما درويش، فلقد فاته أنّ التقنيات والأغراض قد تتنقل بين الأجناس بأريحية، فكما تتسع الرواية للشعرية والفلسفة والتاريخ والجغرافيا يتسع الشعر، وكما يستفيد الروائي من تنويع الرواة وأزمنة السرد، يبدأ شاعرنا في منتصف الحدث ثم يرجع، ويعالج فكرة الراوي العليم وهو ما يزال الراوي المباشر.
يخبرنا عبد الباري أنّ قصيدته كُتبت في نيويورك ما بين يونيو ٢٠٢٠ - مايو ٢٠٢١. إذن نحن إزاء قصيدة طويلة مما يذكّر بجدارية درويش، وهي مكتوبة في نيويورك مما يذكّر بلوركا، لكنّ الأهم من كل ذلك أنها استغرقت عامًا وهو أمرٌ سيظهر شكلانيًا، فنحن إزاء شاعر يفوق درويش ولوركا هوسًا بالشكل.
كيف يمكن لعبد الباري أن يكتب قصيدة تمتد خمسًا وتسعين صفحة دون أن يتورّط في رتابة الإيقاع؟ كيف له أن يعكس دورة الفصول وثيمة التغيّر والجريان دون أن يوقعه تنويع التفاعيل في النشاز؟ اختار لذلك حلًا بسيطًا، وعبقريًا، ولا يخطر إلا على باله: سيبني قصيدته على تفعيلتين ويراوح بينهما.