(مستدرك الحاكم) وطبعاته، نظرة تاريخية متخصصة.
الحمد لله، وبعد:
لطالما كان صدور طبعة محققة تحقيقا علميا من مستدرك الحاكم حلما لدى الباحثين في الحديث والتاريخ.
حتى شهد العقد الرابع من القرن الخامس عشر الهجري (1430هـ – 1439هـ) صدورَ أربع طبعات محققة للمستدرك صدرت في زمن متقارب جدا، وسيأتي الحديث عنهن.
وتكمن أهمية "المستدرك" – خصوصا لدى المتخصصين في التاريخ - أنه مليء جدا بنوعين من الأخبار، خصوصا أخبار الفتنة، وهذا النوعان هما:
1- الأحاديث الشريفة ذات القيمة التاريخية، مثال توضيحي لهذا النوع: حديث "خَاصِفِ النَّعْلِ" وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن منكم مَن يُقاتِل عَلَى تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله»... الحديث. فهذا مع كونه حديثا شريفا، فإن فيه جانبا تاريخيا، وهو قتال علي رضي الله عنه الخوارج بالنهروان.
2- الأخبار التاريخية، مثل قول كِنَانَةَ: «رأيتُ الحسن بن علي رضي الله عنهما أُخْرِجَ من دار عثمان جريحا». المستدرك (5/521) ط الرسالة.
ومن أبرز العقبات في تحقيق المستدرك أمران، هما:
1- أن أحاديث وأخبار المستدرك مليئةٌ بالعلل الخفية.
2- كثرة التحريفات والسقط في الأصول الخطية من قديم، حتى أصبح الاعتماد على النسخ غير كافٍ لتقويم النص، فلا بد من الرجوع للمصادر الثانوية، (ينظر تفصيل ذلك في مقدمة ط المنهاج القويم، و ط دار الرسالة).
يعود الحديث إلى طبعات المستدرك،،،
l أولهن: طبعة دار التأصيل، (1435هـ - 2014م)، بُذل فيها جهد مشكور، لكن – بنظري – لكونها أول محاولة، فقد احتوت على أوهام كثيرة في ضبط النص، وبعض الأجزاء يكثر فيها الأخطاء لأن الأجزاء وُزعت على عدد من الباحثين، فكان بعضهم أمهر من بعض.
lوفي نفس السنة صدرت طبعة دار الميمان (1435هـ - 2014م).
l ثم صدرت طبعة "المنهاج القويم" (1439هـ - 2018م)، وكانت فائقة التألق في ضبط النص، مع الاهتمام بالمقارنة بإتحاف المهرة لابن حجر الذي ييسر لهم ضبط الأسانيد، وبهذه الطبعة أُنْجِزَتْ مهمةُ ضَبْطِ نص الكتاب التي طال انتظارها، وليس في هذه الطبعة تخريج ولا حكم على الأحاديث، فالجهد كان منصبا في ضبط النص، وكتب محققوها نقدا للطبعتين السابقتين (التأصيل والميمان)، في ج1 ص18 .
l وفي العام نفسه (1439هـ - 2018م)، صدرت طبعة دار الرسالة العالمية، وهي التي سأتحدث عنها في هذا المقال لأهميتها ونفاستها، وقد نُشِرَتْ آنفا بصيغة PDF ، تجدها هذا الرابط أدناه:
https://t.co/jyZBKMjybc
حقق هذه الطبعة أربعة من الحُذاق، هم: عادل مُرْشِد، ومحمد كامل قرة بلي، وسعيد اللحام، وأحمد برهوم.
وهؤلاء كلهم من تلامذة الشيخ شعيب الأرنؤوط رحمه الله، وممن كُتبت أسماؤهم – عدا محمد كامل - ضمن فريق تحقيق مسند أحمد، وهذا يبعث الاطمئنان بخبرتهم العالية لخوض هذه المهمة الصعبة.
ومن أهم ما تميزَت به طبعة الرسالة للمستدرك عن غيرها من الطبعات ما يلي:
1- ضبط النص الفائق، فإن طبعتهم – برأيي – أجود طبعة في ذلك، تفوقَت على غيرها.
2- انفرادها عن سائر الطبعات بعمل في غاية الأهمية، وهو الحكم على الأحاديث، وبيان العلل، والتعريف بالرواة، والتخريج، وذكر الشواهد والمتابعات، مع بيان بعضٍ من غريب الحديث، أي أنهم ساروا على منهجٍ يشبه إلى حد كبير منهجهم في تحقيق مسند أحمد.
3- إن اهتمامهم بإيراد الشواهد في التخريج: أفاد جدا في توضيح الصورة التاريخية وإتمامها، وإرشاد الباحث في التاريخ إلى أخبار أخرى ذات صلة، وبعض تلك الشواهد لم أكن لأقف عليها لولا الله ثم فضل هؤلاء المحققين، وذلك بحكم خبرتهم الحديثية العالية.
كل ذلك يجعل طبعة دار الرسالة العالمية للمستدرك أفضل طبعةٍ بين أيدينا، والله أعلم.
وهو عمل بشري، فيه ما يؤخذ عليه مما يمكن إصلاحه في طبعتهم اللاحقة.
وإليك هذه الملاحظات على طبعة الرسالة:
1- يغلب على منهج الكتاب الاختصار في بيان حال الرواة المختلف فيهم أو من كان في روايته تفصيل، على خلاف عملهم في مسند أحمد حيث كانوا يُفصِّلون تفصيلا وافيا، ولعل اختصارهم: اكتفائهم بجهدهم السابق في المسند.
2- وكذلك اختصارهم في التخريج في بعض الأحاديث والأخبار التي ليست في المسند ولا صحيح ابن حبان اللذَيْنِ توسع شعيب الأرنؤوط في تخريج أحاديثهما.
3- الأوهام غير القليلة في الحكم على الأحاديث ذات القيمة التاريخية، وعلى الأخبار التاريخية، واتصفت أوهامهم فيها بما يلي:
- أن جُلَّ تلك الأوهام وقعت في تصحيحِ أو تحسينِ الضعيف.
- أن تلك الأخبار الضعيفة التي صححوها أو حسنوها: وقعت فيها علل خفية لا يتفطن لها المتخصص في الحديث الشريف، خلافا للمتخصص في التاريخ الذي ينتبه لنكارتها وعللها؛ وذلك بسبب التخصص.
- هذا النوع من الأوهام عند المحققين: قليل عند عادل مُرشِد.
- أكثر هذا النوع من الأوهام وقع عند محمد كامل قرة بلي، مع تميزه وبراعته في ذكر الشواهد في التخريج، ومن أسباب كثرة هذه الأوهام عنده: أنه قام بتحقيق الأجزاء التي وردت فيها أكثر هذا النوع من الأخبار.
4- إن غياب أستاذهم عنهم - شعيب الأرنؤوط رحمه الله - كان واضحا، فإن لشعيب - في التخريج والحكم على الأحاديث وبيان العلل والحكم على الرجال - جودة منقطعة النظير، وكان شعيب على قيد الحياة حين بدأوا بالتحقيق، ثم مات قبل إتمامهم العمل، ولكنه بكل حال لم يشترك معهم في العمل، ومع ذلك لن يفوتهم أن يسألوه ويستشيروه فيما أشكل عليهم، ولو عمل معهم الشيخ شعيب أو مُتِّعُوا باستشارته حتى فراغهم من التحقيق؛ لاجتُنِبَت هذه الملاحظات أو أكثرها، فإن الشيخ شعيب حاذق في الحكم على الأحاديث الشريفة والأخبار التاريخية أيضا.
ولإتمام الفكرة، يرجى الرجوع إلى مقال نشرته سابقا بتويتر، تجده هنا:
https://t.co/is9MaVS4uJ
من نتائج هذا المقال:
أن مستدرك الحاكم مهم جدا للباحث في التاريخ، خصوصا في أحداث الفتنة، فإنه احتوى الكثير من تلك الأخبار.
أن جودة عمل فريق التحقيق في مسند أحمد (من ناحية التخريج وتوابعه من الحكم على الأحاديث وغير ذلك من هوامش التخريج)، أجود من عملهم في مستدرك الحاكم ط الرسالة، مع تفوقهم في العملين جميعا.
أن طبعة "مستدرك الحاكم" التي نشرتها دار الرسالة العالمية: هي أفضل طبعة حتى الآن، سواء من حيث ضبط النص، أو ما انفردوا به من التخريج.
التوصيات:
أولا: أوصي الباحث في الحديث عموما، وفي التاريخ خصوصا، أنه إذا وجد الخبر أخرجه فلان وفلان، وأخرجه أيضا الحاكم، فليسارع في الرجوع إلى تخريج محققي المستدرك بدار الرسالة العالمية وتعليقاتهم عليه، فإنها ستفتح له الأبواب وتفيده أيما فائدة.
ثانيا: لتجنُّب وقوع الأوهام في الحكم على الأخبار التاريخية الواردة في كتب الحديث الشريف، أقترح تأسيس مركز أو لجنة استشارية تاريخية تتكون من أساتذة التاريخ الكبار، بحيث إذا عَرَضَت لمحققي كتب الحديث الشريف روايةٌ تاريخية أو حديث شريف فيه جانب تاريخي فإنه يُعرض على تلك اللجنة فتدرسها وتبدي رأيها، فيُحكم (بعد اطلاع المحدثين والمؤرخين) بالصحة أو الضعف أو ببيان علة بعض الألفاظ وغير ذلك، إن هؤلاء وهؤلاء لا غنى لبعضهم عن الآخر، يُكمّل عمل بعضهم الآخر.
ثالثا: إذا لم يتمكن محققو كتب الحديث الشريف والآثار من التعاون مع المتخصصين في الحديث الشريف من أجل الحكم على الأخبار التاريخية، فإني أوصيهم بعدم الحكم على الأخبار التاريخية، والاكتفاء – مع ضبط النص – ببيان حال الرجال (مثل: رجاله ثقات، ونحو ذلك)، وبالتعريف بالرواة (مثل: محمد: هو ابن سيرين)، وبالتخريج، فإني رأيتُ أوهاما كثيرة في أحكام هؤلاء المحققين، ومن ذلك: مصنف ابن أبي شيبة بتحقيق أسامة بن إبراهيم. وطبعة أخرى له أيضا بتحقيق الشيخ سعد الشثري، فالطبعتان كلتاهما وقعَت فيهما أوهام كثيرة في الحكم على الأخبار التاريخية، والله ولي التوفيق.
فواز بن فرحان بن راضي الشمري. الثلاثاء، سَلْخَ رمضان، سنة 1445هـ.