تُعدّ مدينة مدين واحدة من أهم المواقع التاريخية في المملكة العربية السعودية، والتي تحتفظ بتراث حضاري عميق عبر آلاف السنين. تُعتبر مدين، المعروفة أيضًا بمدائن شعيب ومغائر شعيب، موقعًا أثريًا هامًا يقع تحديدًا شمال غرب منطقة البدع، إحدى مدن محافظة تبوك. تبعد تلك المدينة حوالي 170 كيلومترًا عن مركز المحافظة نفسها. ويعود سبب تسميتها بهذا الاسم إلى كونها موطن لقوم مدين العربيين القدامى الذين ورد ذكرهم في مختلف النصوص الدينية مثل التوراة والقرآن الكريم.
كان قوم مدين أمة حيوية لعبت دورًا بارزًا خلال الحقبة التاريخية القديمة للعراق والخليج العربي. وهم ينتمون إلى سلالة أبراهيم الخليل حسب رواية الكتاب المقدس، حيث يُشار إليهم كالتالي: "وكان لمدان ابنان هما مدين وتبع" (التكوين ١٤: ١٣). وفي حين تتحدث الروايات اليهودية والمسيحية عن مديان كبلدة صغيرة بالقرب من سيناء، فإن الدراسات الحديثة تقترح أنها ربما كانت جزءًا مما يعرف الآن بالمملكة العربية السعودية.
وفقًا للروايات الإسلامية، فقد اشتهر قوم مدين بأنهم كانوا رعويّن خالصين يقومون برعاية قطعان أغنام ضخمة. كما مارسوا التجارة لكن بطريقة غير أخلاقية إذ كانوا يغشون المتعاملين بشأن موازين وأوزان البضائع المباعة لهم. لقد تعرض هؤلاء القوم لدعاة الدين والإصلاح الاجتماعي مثل نبي الله موسى عليه السلام الذي لجأ إليهم بعد هروبه من مصر، وكذلك النبي شعيب عليه السلام الذي دعا أمتهم للإيمان بالله الواحد ودعاهم للتوقف عن الأعمال الربوية والغش التجاري. إلا أنه وبسبب تمسكهم الشديد بممارساتهم التقليدية وأباطيل آبائهم، أصروا على طريق الضلال واستحقوا عقوبة شديدة بسبب عصيان الرسالة الربانية المقدمة لأجدادهم وشعبهم الحالي.
ومن الناحية الفنية والأثرية، تشكل مغاور ومدافن مدين جزءً كبيرًا من المناطق السياحية المدرجة ضمن تصنيف مواقع اليونسكو العالمية للتراث الثقافي والحضاري نظرًا لما تحتويه من نقوش وتمثيلات فريدة توضح الحياة اليومية لسكان المنطقة منذ زمن بعيد جدًّا. بالإضافة لذلك، تمتلك نفس المنطقة مجموعة متكاملة ومعقدة من الكهوف والمعابد المهيبة المنحوتة مباشرة وسط الجبال والصخور البركانية - تشابه واضح لما وجده العالم حول مدائن صالح الشهير الآخر الواقع جنوب غرب مدينة العلا بحوالي عشر ساعات سيرًا بالأقدام.
تثير الاختلافات بين الموقعين تساؤلات عديدة لدى المؤرخين والعاملين في مجال علم الآثار حول مدى ارتباطهما وترابطهما الزماني والمكاني. فعلى سبيل المثال؛ هل يمكن اعتبار أحد هذين المكانين أسلاف الآخر أم مجرد تطوير طبيعي له؟ وهل هناك علاقة مشتركة تجمع الاثنين فيما يتعلق بشرعية السكان والقيم الاجتماعية والدينية السائدة آنذاك؟ ولعل البحث المستمر والاستكشاف العلمي لهذه المسائل وغيرها كثير ستقدم تفاصيل جديدة تساعدنا على فهم قصة حياة مجتمع مديَن بشكل أفضل وإلقاء نظرة أقرب نحو حقائق تاريخية مهمة للغاية بالنسبة لعلم الأنثروبولوجيا البشرية وعصر ما قبل الإسلام تحديدا.
