يشكل "فن المالوف" أحد الروافد الثقافية الغنية التي تتوارثها مدينة قسنطينة الجزائرية جيلاً بعد جيل، وهو ما يضفي طابعاً خاصّاً ومتفردًا لهذه المدينة العريقة. يعكس هذا الفن التراث الشعبي الجزائري بشكل عام والقسنطيني خاصة، مما يكسبَه أهميته الفريدة والمتميزة ضمن المنظومة الموسيقية والعروبة الشاملة. يندرج تحت مظلة موسيقى المالوف العديد من الأنماط الفرعية مثل الرَّبَعاني والدَوْران والفصّل وغيرها، كل منها يحكي قصة وتاريخاً معينين داخل نسيج المجتمع المحلي.
يعود أصل تسمية "المالوف"، بحسب بعض المؤرخين، إلى اللغة التركية القديمة حيث تشير كلمة "maluf" إلى شيء مألوف ومستساغ لدى الناس. ومع مرور الزمن، تحولت هذه التسمية لتُطلق على نوع معين من الموسيقى الشعبية التي تتميز بالألحان المتكررة وبريق الإيقاعات التقليدية. تُعتبر مدينة قسنطينة موطنًا رئيسيًا لهذا النوع الفني بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي واختلاط سكانها من مختلف الأعراق والثقافات خلال عصور مختلفة.
يتمحور جوهر المالوف حول استخدام آلات موسيقية تقليدية كالعود والربابة والكمان بالإضافة إلى الطبلة والصنج والتي توفر خلفية صوتية غنية وتعزز حساسية الفنان أثناء التأليف والإداء الحي لمقطوعاته الموسيقية. يتميز المالوف بالقوافي الشعرية ذات المدى الواسع والمعزوفة المُرتجلة بحرية أكثر مقارنة بأنواع أخرى من الموسيقى العربية التقليدية. يستخدم المغنون عبارات شائعة تعبر عن مشاعر الحب والشوق والتعبير الجماعي عن الهموم اليومية للمجتمع.
يمثل فن المالوف وسيلة للتواصل بين الأفراد عبر الحدود الدينية والعرقية والفكرية؛ إذ أنه يجسد روح الوحدة والألفة الاجتماعية ويقدم رسائل سلام واحترام للأحداث التاريخية والحكايات الشعبية الملونة بالسحر والخيال البشري. إن الجمع بين أصوات الآلات ولحن الأناشيد يساهم بصورة ملحوظة في الحفاظ على ثراء التراث الثقافي الجزائري عموماً والمتعلقة بموسيقى قسنطينة خصوصاً.
خلال القرن الماضي شهد فن المالوف تطورات عديدة ساهمت فيها مدارس فنية جديدة واستخدام أدوات تسجيل حديثة حفاظا عليه وتمثيلا له قدر المستطاع وسط تغييرات العالم المعاصر المتسارع. تبنت المؤسسات التعليمية الرسمية مواد دراسية متخصصة لدراسة تاريخ وعناصر هذا النمط الموسيقي والذي أصبح الآن جزء أساسي من الهوية الوطنية لكل جزائري ولكل عربي يحترم تراثه وثقافته الأصلية مهما ابتعد عنه جغرافياً.
