في زمن كان فيه الأدب مصدرًا للتعليم والثقافة، التقى العالم الأشهر الأصمعي -وهو أحد رواد النقد والبلاغة العربيين- بأحد الأعراب الذين كانوا معروفين بسذاجة لغتهم لكن دقة فطنتهم وأخلاقياتهم. هذه الواقعة التي تحكي قصة اجتماعهما تُعتبر واحدة من أكثر القصص شهرةً في تاريخ اللغة العربية، وهي تحمل بين طياتها درساً مهماً حول توازن العلم والفطرة الإنسانية.
كان الأصمعي، وهو عالم أدب بارز ومعروف بفصاحة لسانه وفهمه العميق للقواعد والنظم الشعرية، قد ذهب ذات يوم إلى الصحراء بحثاً عن معرفة جديدة ولإلقاء محاضرات علمية للأدباء المحليين هناك. وفي إحدى الرحلات، التقاه أعرابي بسيط لم يلتزم بالقواعد اللغوية كما فعل الأصمعي ولكن له حنكته الخاصة بفهم الحياة.
جلس الرجلان تحت ظل شجرة كبيرة، بدأ الأصمعي حديثه قائلاً: "أيها الأخ الأعرابي الكريم! هل ترغب بأن تعلم بعض قواعد النحو واللغة؟". ردّ عليه الأعرابي بنبرة مليئة بالحكمة والموضوعية: "بالطبع يا أخي العزيز! فأنا مستعد لتعلم كل ما يمكنني استيعابه بشرط واحد...". نظر إليه الأصمعي باهتمام منتظراً الشرط. فقال الأعرابي: "شرطي هو أن توضح لي معنى الجملة 'ما لا يفيد يفيد بتكراره'".
تفاجأ الأصمعي بهذا الطلب غير المتوقع ولكنه سرعان ما فهم عمق سؤال الأعرابي. فقد كانت تلك عبارة مجازية تعبر عن حكمته الذاتية أكثر منها طلباً لفهم قاعدة نحوية. إن المعاني الغنية غالبا ما تحتاج لتكرار لتستقر وتتضح لدى المستمع، تماما كالأعمال البسيطة التي تصبح مفيدة ومؤثرة عند تكرارها. وهذه هي الحقيقة الحقيقية وراء المثل القائل "التكرار يعلم الصبيان".
ابتسم الأصمعي تقديرا لحنكة هذا الأعرابي وسخاء تفكيره، وتعجب من قدرته على طرح أسئلة تتخطى حدود التعليم الرسمي إلى قلب الدروس الروحية والمعرفية اللامحدود. بعد ذلك اليوم، عاد الأكاديميون مثل الأصمعي ينظرون بنوع مختلف من الاحترام لأهل الصحراء الذين ربما ليس لديهم خلفية رسمية في التعلم ولكن لديهم ثروات هائلة من الحكم والعقلنة.
هذه القصة ليست فقط مثالاً جميلًا للسلوك الراقي النابع من اختلاف الثقافات وإنما أيضاً رسالة قوية حول أهمية احترام جميع أنواع الذكاء وكيف يمكن للعقول المختلفة أن تتعلم الكثير من بعضها البعض عندما تجتمع في مكان السلام واحترام الآخر. إنها تشجعنا على البحث عن المعرفة سواء جاءت عبر الدورات الدراسية الرسمية أم التجارب الحياتية البدائية، لأن كلاهما يحتوي على جوانب مهمة نحتاج إليها للتطور الشخصي والعلمي.